قارئ المقال
|
مقالات: بقلم –إبراهيم محمد المنيفي.
“ذوو الإعاقة مفرطون في الحساسية، هم رائعون لكن التعامل معهم مجهد وكأنك تسير في حقل ألغام ما تدري متى وأين تصادف الغم الذي قد ينفجر بك، هم يطالبون بالمساواة ولكن حينما نعاملهم كغيرهم نجدهم يغضبون منا ويتهموننا بالتحامل عليهم وعدم التقدير، إن ذوي الإعاقة يحيروننا حقاً فكيف نتعامل معهم؟!!! هل نظل نداريهم ونطبطب على ظهورهم حتى نكون بنظرهم طيبين وخيرين؟ كيف يطالبون بالمساواة وبالإعفاءات والاستثناءات في ذات الوقت؟!!! هل يدرك أحبتنا ذوي الإعاقة أن هذا تناقض ويوحي بانفصام في التفكير؟”
مهلا، مهلاً يا أصدقاء: هذا حديث طويل ومتكرر وسردية يكررها الكثير من الأكاديميين في التربية عموماً والتربية الخاصة خصوصاً وكذا مدربي التنمية البشرية وأخصائي علم النفس وتعديل السلوك وآخرون في مقاربة قضايا ذوي الإعاقة، ولكن للأسف جزء من النص مفقود ويمكن القول إنما ذُكر أعلاه ليس بالضرورة أن يكون خطأ على الإطلاق لكنه نصف حقيقة –والخطأ أهون من نصف الحقيقة إذ أن الخطأ يكون مُتعلَماً وواضح فيسهل علاجه بينما الأخرى ترتدي ثوب الحقيقة فيصعُب إدراكها والتعرف عليها وعلاجها—
وفي هذه الأسطر تعالوا لنستعرض بعض الحقائق فيما يخص التعامل مع ذوي الإعاقة وقضاياهم بكل مهنية:
الحقيقة الأولى: أن التعميم دلالة جهل والفروق الفردية مبدأ تربوي أقرته جميع العلوم الإنسانية، ولكن الكثير من المختصين ووسائل الإعلام وأفراد المجتمع يتعاملون مع ذوي الإعاقة بنظرة تعميم، فإما أن يرفعوا التوقعات ويطالبون من ذوي الإعاقة أن يكونوا عباقرة وخارقين بالضرورة وهذا يضعهم أمام تحديات وضغوط نفسية لا تراعي تفاوت القدرات والامكانيات، وإما أن يخفضوا سقف التوقعات فلا يرون ذوي الإعاقة إلا في زوايا المساجد أو في الجولات (الدوارات) للتسول –على الرغم من أن هناك متسولين من غير ذوي الإعاقة ولا ينظر للمجتمع كله كمتسولين–.
في الأولى لا يتسامحون مع أخطائنا ويرونها كبيرة حتى أنهم يستغربون أن يكتب كفيفاً قصيدة غزل، أو أن يدندن معاق حركياً على كرسيه المتحرك، أما إذا قرر ذو الإعاقة أن يتناول الإرجيلة أو القات فإنه قد ارتكب جرماً كبيراً.
كما يقارنون ذوي الإعاقة ويريدون صورة واحدة بالأبيض والأسود فقط فقد يمسك أحدهم بيد كفيف ويضل صامتاً حتى يتعرف عليه وإذا لم يتذكر فهو غبي وليس ذكياً مثل فلان الذي يعرف من مجرد لمس اليد وكما أنه يعرف فئات النقود أيضاً.
وفي الثانية: يتجاوزون عن أخطاءنا ويتعسفون الآيات والأحاديث والآثار ليسقطوها علينا بشكل يؤيد وجهة نظرهم النمطية “ليس على الأعمى حرج”، كما يصفقون لنا في الوقت الذي لم نفعل ما يستحق التصفيق بعد، وحتى حين ننجح ونحقق الإنجاز نكافأ معنوياً بشكل مبالغ فيه وذلك السلوك يتضمن نظرة ذات توقعات منخفضة وكأننا فعلنا ما ليس منتظراً منا.
الحقيقة الثانية: أن الغالبية ممن تصدوا للتنظير عن ذوي الإعاقة وخصائصهم النفسية والانفعالية ليسوا من ذوي الإعاقة واستنتاجاتهم قد تأثرت بشكل كبير بعوامل ذاتية وهي معروفة في العلوم الإنسانية وأخرى موضوعية لأن العينات التي طُبقت عليها الدراسات قبل أن تتحول إلى نظريات كانت عينات نخبوية من ذوي الإعاقة وغير محايدة لأسباب كثيرة ليس المجال لذكرها.
ولذلك فإن ذوي الإعاقة في الكتب والمؤلفات لا نعرفهم كذوي إعاقة ولا يشبهوننا غالباً، (أذكر أنني أثناء البكالوريوس قد قرأت عن المكفوفين تحت يافطة التخصص كلاماً شعرت من خلاله بالتنمر والتهزئ وذلك للمبالغات الكبيرة في وصف انفعالات المكفوفين وخصائصهم النفسية.
فإن لم ننجح قالوا بأن حاسة البصر تمثل ثلثي وسائل الإدراك للعالم المحسوس، وإن نجحنا وتفوقنا قالوا بأنها حيلة دفاعية للتغلب على الشعور بالعجز وأن التميز نتيجة لتلك الحيلة الدفاعية.
إن قلت علاقاتنا الاجتماعية وصفونا بأننا منعزلون وأننا نميل للانطواء نتيجة عدم قدرتنا على التفاعل مع المجتمع، وإن تصدرنا المشهد وظهرت لدينا توجهات قيادية وصفوا ذلك بأنه سلوك تعويضي للتعويض عما نشعر به من نقص بزعمهم.
والحقيقة أن جزء مما سبق صحيح لكن أحياناً وليس دائماً ومع البعض وليس الكل وهذا أمر ينطبق على ذوي الإعاقة وغيرهم مع بعض التفاوتات بسبب ما تفرضه علاقات المجتمع واتجاهاته.
الحقيقة الثالثة: أن المدخلات الأكاديمية والتدريبية في المعاهد والجامعات قد تجاهلت وبشكل كبير الأشخاص ذوي الإعاقة وانعكست سلباً على المخرجات، فلا غرابة أن تجد دكتوراً جامعياً يتساءل كيف يستخدم الطلاب المكفوفين الكمبيوتر أو ينجزون أبحاثهم بمفردهم، أو إعلامياً يستغرب مراسلة كفيف له على الواتساب أو البريد الإلكتروني.
وحتى العلوم التي يُفترض أنها أكثر قرباً من المجتمع بكل شرائحه كعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وغيرها تجد الخريجين أو المتخصصين في تلك التخصصات لا يعرفون شيء عن ذوي الإعاقة للأسف.
وهذه الفجوة الخطيرة ينجم عنها سوء تقدير لاحتياجات ذوي الإعاقة وبالتالي استخدام طرق ومناهج وأساليب تدريس أو تدريب خاطئة فيعتقد المعلم أو المدرب أنها مجهدة ولا تُثمر، بينما يعتقد ذوو الإعاقة أنها سلبية ولا تعبر عن احتياجاتهم التي هي بسيطة في الأساس وتحتاج فقط إلى معرفة وإطلاع لكي تكون مناسبة.
الحقيقة الرابعة: الفهم الخاطئ لمبدأ المساواة.
حينما يطالب ذوو الإعاقة بالمساواة فإنهم لا يفصلون بينها وبين مبدأ (تكافؤ الفرص) ولا معنى للمساواة دون تكافؤ في الفرص والامكانيات وإزالة الحواجز، فليس من المساواة مثلاً أن تجعل المحاضرة في أدوار علوية ولا تتوفر سلالم أو مصاعد لذوي الإعاقة الحركية مما يحد من وصولهم إلا بالاعتماد على الآخرين، ليس من المساواة أن تضع وقتاً لإنجاز التكاليف لجميع طلابك وفيهم مكفوفين يحتاجون لوقت إضافي لعدم توفر المراجع بطريقة برايل أو لاستهلاكهم مدة أكبر في الكتابة والاستماع للمحتوى المسجل صوتياً بدل الكتاب أو الملزمة.
الحقيقة الخامسة: التعامل الرعائي مع ذوي الإعاقة وقضاياهم بدلاً من المنظور الحقوقي.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة يتعامل الكثير مع ذوي الإعاقة من منطلق رعائي ولكل أسلوبه في الرعاية، فهناك من يعتقد بوجوب الصرامة مع ذوي الإعاقة دون مراعاة لتكافؤ الفرص أو الفروق الفردية الطبيعية الناجمة عن الإعاقة ضناً منه أن ذلك في صالحهم، وهناك فئة أخرى حتى وإن بدت لنا مثقفة وذات التزام ديني وقيمي فإنها فئة مجرمة بالمعنى الحرفي للكلمة فهذه الفئة هم ممن لهم مواقف مسبقة تجاه ذوي الإعاقة وبأنهم يمثلون عبء على المجتمع ويجب أن يتم قمعهم والتخلص منهم بأي طريقة (فمن قام بتصميم وتنفيذ برنامج t4 للتخلص من ذوي الإعاقات في عهد هتلر هم نخبة من الأطباء ودكاترة في علم النفس وتخصصات أخرى).
وهناك طرف ثالث مغاير وهم من يمنحون ذوي الإعاقة امتيازات واستثناءات مبالغ فيها مما يجعل منهم اتكاليين على الآخرين، فيعفونهم من معظم المهام حتى لو كانوا قادرين على القيام بها، ويكافؤونهم حتى لو كانوا لا يستحقون، وهذا ما يتسبب بآثار تربوية كارثية على ذوي الإعاقة والمحيطين بهم.
والأنسب والأصوب أن يتم التعامل مع ذوي الإعاقة انطلاقاً من منظور حقوقي بحت لأنهم جزء وشريحة كبيرة من المجتمع.
وأخيراً وليس آخراً لماذا قد يبدو ذوو الإعاقة مفرطين في الحساسية؟
-ما شعورك لو تم استبعادك من التعليم أو العمل بسبب لهجتك أو منطقتك؟ ما شعورك مثلاً لو أن صاحب حافلة عامة رفض أن يقلك معه لأنك بدين أو لأن رأسك أصلع؟!!
تعامل عنصري وبغيض ويثير الاشمئزاز والتحسس في نفس الوقت وستشعر بأن على الآخرين أن يقفوا إلى جانبك لرفض ذلك السلوك العنصري –أليس كذلك لأن الاختلاف في اللهجة والمنطقة والشكل ليس مبرر للاستبعاد؟.
كذلك يا أعزائي الإعاقة اختلاف ولا يجوز استبعاد شخص ما أو الحد من فرص تميزه بسبب إعاقته من أي برنامج تعليمي أو تدريبي أو مهني.
كما أنه ليس من المقبول التذمر من الجهد الإضافي الذي قد يبذله المعلم أو المدرب مع ذوي الإعاقة، فكما أن قصار القامة يجب أن يكونوا في الأمام لرؤية المحتوى المكتوب، وعلى المعلم أو المدرب أن يشرح باللغة واللهجة التي يفهمها المتلقون فإن مراعاة احتياجات ذوي الإعاقة يجب أن تكون من المتطلبات المهنية لكل معلم أو مدرب أو من تناط به مسؤولية تقديم الخدمة في أي مصلحة عامة أو خاصة ذات نفع عام، ويجب أن يساهم الإعلام ومنابر صناعة الوعي في المجتمع في صناعة اتجاه عام يعتبر القدرة والكفاءة في التعامل مع ذوي الإعاقة من أهم المعايير والمتطلبات المهنية لكل موظف أو عامل في كل المجالات.