قارئ المقال
|
خاص: علوان الجيلاني /
يظل البردوني أكثر أدباء اليمن عطاءً، ويظل أكثرهم عمقاً، وأقدرهم على خلق الإثارة، وتقديم المعرفة مرتبطة ارتباطاً شرطياً بالموقف الإيجابي، وبالفضاء الإنساني الذي لا تحده حدود.لقد كانت حياته عاصفة شعرية وأدبية قوية الفيضان، لكن موته كان بداية حياة أكثر عصفاً، إذ ظل هديرها يرتفع عاماً بعد عام.وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما منذ رحيله طالت قامته حتى طاولت النجوم، وتجاوزت كل من ساوره حلم ذات يوم بمجاورتها.
وإذا كان عام ٢٠٢٢م، قد استفتح أقطار وقته بضجة صاحبت صدور ديوانيه ” ابن شاب قرناها” و ” العشق في مرافئ القمر ” بعد إخفائهما مدة ٢٢ عاماً، فإن صيف العام نفسه شهد ظهور أعمال أخرى لا تقل أهميتها عن أهمية الديوانين؛ أولها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي أعجب كيف سمحنا لكل هذا الوقت أن يمرّ دون أن نصمم على نشره، وسنتناوله في عدة مقالات.
الكتاب معرض واسع لاشتباك البردوني مع هموم وشجون ومشاغل المشهد الثقافي العربي والعالمي، وهو في الوقت نفسه واحد من أكثر كتب البردوني ثراءً وتنوعاً.يصاب القارئ بالذهول وهو يتابع طيف الموضوعات التي ينتظمها محتواه؛ من المدارس والمذاهب والتيارات الأدبية والفلسفية إلى المناهج النقدية، يقارب ظهورها وظروف نشأتها، تجلياتها وأصداء كل منها في ذروة تجليه وما تركه بعد أفوله.
كما يتابع المؤتمرات الأدبية وتبدلات المشاهد الشعرية العربية وطبائع تلك التبدلات، ويناقش المقولات ومرجعياتها، ويستكنه دخائل مواقف الأدباء وأصول معاركهم. يتعالق مع الأفكار الخلاقة ويفضح الأفكار المعطلة، ويكشف عن الحقيقي المثمر، والزائف الوهمي في الابداع والحركات الأدبية. مؤشراً في نفس الوقت على الاستثنائي والعادي في الزعامات والأدب والفن، وعلى الابداع الآني والإبداع الدائم المعاصرة. السطحي الذي يروجه القطيع في حزب أو مدرسة أدبية، والحقيقي العميق الذي غالباً ما ينكره القطيع وتتبرم به المدارس، المبدعون الذين ترتفع بهم معارفهم عن السفاسف ويشغلهم الانجاز الإبداعي عن الضجيج الفارغ، والأدعياء الذين ينشغلون بالتعييب دون أن ينجزوا شيئاَ.
ويزداد ذهول القارئ حين يعرف أن البردوني أنجز هذا الطيف المتنوع من الموضوعات الحافل بمئات الأسماء شعراءَ وروائيين ونقادًا ومفكرين وفلاسفة وفنانين وزعماء وإعلاميين، ومثلها أسماء كم هائل من الكتب والبرامج الإذاعية والمسرحيات والندوات والمهرجانات. وسيول من الإستحضارات للوقائع والتواريخ والمواقف والأحداث والأشعار والاقتباسات النثرية، يوردها في مقاربات بديعة تقديماً وعرضاً وتحليلاً ومقارنات ونقداً، حتى أنك لا تدري أتعجب بموسوعيته وثراء عوالمه ودقة ملاحظاته، وذكاء غوصه إلى عمق الحدث أو الشخصية أو الموقف أو النص، أم تعجب بفرادة لغته وبلاغة عبارته، وخصوصية أسلوبه الذي يجمع بين صبوة الشعر وقوة النفاذ إلى المقصود.
وتتسع الدهشة حين نعرف أن البردوني كتب مواد هذا الكتاب في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، وكان في ذات الوقت مشغولاً بكتابة سيرته، حيث كانت حلقاتها تتوالى على صفحات جريدة ٢٦ سبتمبر كل أسبوع، إلى جانب التزامه بكتابات لمنابر أخرى، وانشغاله بأسفار متوالية إلى عواصم مختلفة؛ أما للمشاركة في مهرجانات وملتقيات أدبية وثقافية، أو لأجل العلاج، فقد كان وقتها واحداً من نجوم المهرجانات؛ بل كان في ذروة تحققه الأدبي وحضوره الثقافي، وكان أيضاً على أبواب السبعين من عمره، وكانت أمراض الضغط والسكر ومتاعب الجهاز التنفسي تنال منه باستمرار، حتى إنه في خريف عام ١٩٩٧م تعرض لجلطة دماغية خفيفة كادت تودي بذاكرته، لو لا أن أطباء في أحد المستشفيات في العاصمة الأردنية عمان نجحوا في السيطرة عليها
عنوان الكتاب ” شؤون ثقافية” هو نفس العنوان العام الذي اختاره البردوني لمقالاته التي كانت تنشر في صحيفة الثورة يوم الاثنين من كل أسبوع على الصفحة السابعة في الغالب، ثم في ملحق الثورة الثقافي وظلت هذه الكتابات تنشر يوم الاثنين من كل أسبوع في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، وأنجز خلالها حوالي 75 مادة، والمنشور في هذا الكتاب يقتصر على نصفها كجزء أول.
تتفاوت المواد من حيث الطول فبعضها كان يتفارد على الصفحة بكاملها، وبعضها يأخذ ثلاثة أرباعها وبعض آخر يكتفي بثلثيها أو نصفها، وأحيانا كان تكبير البنط أو تصغيره من قبل مخرج الصفحة يلعب دوراً كبيراً في استشراء مساحة المادة أو انكماشها.
أما من حيث طبيعة الموضوعات فهناك المواد ذات الموضوع الواحد، وهناك مواد تتعدد موضوعاتها وإن ظل ينظمها خيط واحد، وهذه كان يضع لها عناوين فرعية، فتضم المادة عنوانين أو ثلاثة أو أربعة، وأحياناً كانت تنوب الأرقام عن العناوين للدلالة على تعدد التناولات.
العنوان العام “شؤون ثقافية” أتاح للبردوني حرية التنقل بين طيف واسع من الموضوعات، حتى أن بعض المواد انكتبت كمتابعات لأحداث ثقافية أو إصدارات هامة، ولا يميزها عما يكتبه الآخرون من متابعات الا كونها منتقاة بسبب أهميتها أو مغزاها، وإلا كون البردوني بأسلوبه الوصفي وطرائقه في استدعاء الأشباه والنظائر يحولها إلى موضوعات أدبية حقيقية، وموائد ثقافية مذهلة. مع ذلك فإن غالبية مواد الكتاب مواضيع عميقة التناول، وتتسم بغرضية قوية الصلة بما نعرفه عن البردوني من جدية وتفوق وحرص على قراءة ما لا ينتبه الآخرون له، أو ما يعمون وربما يتعامون عنه. فالمادة بمجموعها تقع في صلب مشروع البردوني كشاعر وناقد ومفكر ومثقف كبير.
محتوى الكتاب يقدم وجها من وجوه البردوني الأدبية والثقافية الدالة على موسوعيته، وعلى قوة متابعته، ووفرة انشغالاته. ومادته بالنسبة لي ولآخرين من أبناء جيلي الذين اقتربوا من الرجل العظيم، أو كانوا يحرصون على متابعته بلهفة وشغف، يمثل جزءًا من جماليات ذاكرتنا، شخصياً كان اشتغالي على الكتاب تصحيحاً ومراجعة وتدقيقاً حالة نوستالجيا غير عادية، فكثير من مواد الكتاب أساسها مثاقفات كانت تدور بينه وبيننا نحن مريديه الشباب، يحضرها أصدقاؤه القدامى وزواره من أدباء يمنيين وعرباً، وقد سبق أن ذكر ذلك أحد محبيه الكبار؛ أعني أستاذنا الكاتب الراحل عبد الله علوان في إحدى كتاباته عنه. كما ذكره أستاذنا الدكتور عبد الرضا علي الكاتب والناقد العراقي المعروف.
حظي الشاعران نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري بمجموعة من أجمل مقاربات البردوني في هذا الكتاب، فقد كانت شجون رحيلهما على التوالي عام ١٩٩٧م، 1999م وافرة، إذ هما بقية البقية من رفاق العمود الكبار، وكلاهما كان صديقا للبردوني ومُعَظَّما عنده طوال الوقت.
لكن القاضي عبد الرحمن الارياني والشاعر محمد سعيد جرادة وعبد السلام صبرة، كانت لهم مساحة مميزة، أما الكاتبان أحمد بهاء الدين وسعد الدين وهبة اللذان رحلا عام ١٩٩٦م، فقد حظيا بوقفات أظهر البردوني فيها شغفا كبيراً بهما، ونفس المنحى تميزت به وقفاته مع طه حسين وعلي الجارم وإيليا أبو ماضي، وأبو القاسم الشابي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ونازك الملائكة والأخطل الصغير وابنه عبد الله وسلمى الحفار الكزبري، وغادة السمان
ثراء الكتاب ينبع من أسلوب البردوني نفسه، زوايا التناول، وطرائق تنضيد المواضيع، حيث يقوم بتشغيل ممكناته الأسلوبية ومعارفه الواسعة كلها أثناء الكتابة، فتناولت موضوعات الكتاب شخصيات من التاريخ استدعتها كتب أو قصائد مميزة، مثل الأخطل التغلبي وأبي نواس والعباس بن الأحنف والمتنبي وأبي العلاء المعري وابن زيدون وولادة بنت المستكفي وأفلاطون وميكافيلي وابن خلدون ونتيشة وجان بول سارتر وشاتو بريان والبير كامو وبول إيلوار وأحمد شوقي وجيران خليل جبران وميخاييل نعيمة وعباس العقاد وإبراهيم المازني وزكي مبارك وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأمل دنقل وأدونيس ومارون عبود وجورج صيدح وحنا مينا وجابر عصفور ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وفهد بلان ومحمد عابد الجابري وعلي أومليل ووليد مشوح و سعاد الصباح وعشرات غيرهم.
إلى جانب مواضيع ذات بعد تاريخي وحضاري مثل الحملة الفرنسية على مصر، والمقارنة بين محمد علي باشا، وجمال عبد الناصر، ورواية هتلر، أو ستعراض أعمال أدبية وثقافية لكتاب مثل شوقي ضيف وثريا العريض وعزيزة عبد الله، وكتبا تموضعت كُتاّبا مثل فرح أنطون وجميل صدقي الزهاوي.
نتحدث معكم بالتفصيل عن النقد ونقده عند البردوني
الذي تجلى في كتاب “شؤون ثقافية” في المقال القادم.