المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى بمناصرة حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة

شؤون البردوني الثقافية.. شاتو بريان والشاعر الذي رهنته زوجته في ثمن الغداء (6-6)

شؤون البردوني الثقافية.. شاتو بريان والشاعر الذي رهنته زوجته في ثمن الغداء (6-6)

خاص : علوان الجيلاني /

تحدث الأستاذ الشاعر –علوان الجيلاني، في المقال السابق عن إثنتين من أهم السمات الأسلوبية عند الراحل البردوني رحمه الله “الاقتباس والاستبدال”، وفي هذا المقال وهو الأخير للكاتب في هذه السلسلة يُعرج على أهم أساليب البردوني الكتابية وإبداعيتها، ويختتم المقال بطرائف أدبية في حياة البردوني جاءت في شؤونه الثقافية حيث يقول:

لا بد من الإشارة هنا إلى مجموعة سمات في كتابات البردوني، ربما يعود إليها معظم شغف الناس -نخبة وعاديين – به:

 أولاها: طرائق تفسيره للأحداث والمواقف.

في “طوفان على ريش الثواني” كتب يقول “ذات مرة كتب خليل جلال، أهوج نقد لرواية جبرا إبراهيم “السفينة”، حتى عثرنا عليها بعد أن أخذنا منها موقفا بأنها رواية رديئة، فقلنا لابد أن نرى الفرق بين خالق الأدب وناقده، فدخلنا الرواية وإذا هي من بديعات الفن الروائي، وإن الناقد كان بعيداً عن معرفة مواطن الإجادة بعد المشرقين، ومثل هذا مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، إذ وجدنا من يتضاحك عليها هازئاً حتى كاد أن يزهدنا، وكنا قد عرفنا أن بعض الناس عيابون، فلا نقبل العيب؛ بل نحب النقد الغواص، فقرأنا مسرحية توفيق الحكيم، وكادت أن تفوتنا بقدرة العيابين على رد النفوس الضعيفة عن مرادها، وهكذا كان النقد في الأربعينيات والخمسينيات يحاول خلق المعائب إن لم يجدها، فإن وجدها أضاف إلى العيب عيوباً”

ثانيتها: استدعاء الاشباه والنظائر من الماضي والحاضر.

فهو على سبيل المثال في “عطرية التاريخ” يعرض مقولة في “محاورات أفلاطون”، ثم يستدعي أشباهها ونظائرها:

“قال السفسطائيون: القدرة غير العظمة” ثم يعقب: فكم قتل بنو إسرائيل من أنبياء؟ وكان في الأنبياء قابلية الموت من أول هجمة. وهذا بدوره جعله يستحضر رأياً مشابها في حادثة تعد من النظائر القوية:

“وهذه المسألة عالجها ابن خلدون في مقدمته، حين قارن بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية”

وشبيه بذلك مقارناته بين حديث ميكافيلي في كتابه “الأمير” عن القرون الخوالي وما حدث فيها واستشهاده بالضعفاء الذين تقووا، وبالأقوياء الذين ضعفوا” بحديث ابن خلدون في مقدمته عن اقتران “القوة بالشوكة العصبية العشائرية، وقوة شوكة القبيلة، وحتى تبلغ الدولة الترف يصيبها الاسترخاء فتقوم مكانها قبيلة موصولة العرى بالخشونة، والرياضة على المشقة فالأشق”

وتتجلى لمحات البردوني الذكية في مقارناته المدهشة بين الجواهري ونزار قباني في مقال عنوانه “مقارنة بين شاعرين”، فنزار بارع في استدعاء الرموز التاريخية كما فعل حين استدعى “ميسون بنت بحدل الكلبية في قصيدته “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” وهو يمزج الغزل باستثارة الحرب حتى لا تدري أهو في مرقص غوان أم في خندق حرب. أما الجواهري فلا يعتمد على استدعاء الرموز التاريخية، وإنما يطل من شرفة علم الكلام أو باب معرفة الله كما فعل في قصيدة “المحرقة”.

والجواهري لا يختلف شعره الا في مراحل التطور، وليس في مراحل التغير، أما نزار فظل يتطور منه إليه، بامتلاكه ناصية اللغة، وانقياده لرفيف الفساتين والشيلان.

للجواهري منهج فكري لزيم على توالي فصول شعره، فهو يطرح فكره في احتشاد الجماهير، وفي التهاب العيون حباً، ولنزار منهج لغوي ديباجي فشعره تنم عنه روائح مفرداته وتراكيبه. 

نزار يعتمد على الرمز التحريري ويحول الكلام إلى حدائق غنّاء، والجواهري يتكئ على جحيم النضال ويكتب شعراً يتمنهج الفكر، وامتلاك كلٍّ منهما أسلوباً من علامة فحولتهما الشعرية، وأصالتهما العريقة.

وتشمل مقارناته بين نزار والجواهري الأوطان والحواضن والمرجعيات الثقافية. فنزار شامي موصول الثقافة بباريس والعدوة تحرراً ونضالاً، والجواهري عراقي بدوي يتملى جلال الوجود من جلال النجف وعلي وآله.

قصيدة الجواهري بدوية على ظهر جمل تقبّلها الشمس من كل الجهات، وقصيدة نزار باريسية تتأرج بعطور كريستيان ديور وتأكل المتبّل والحمص.

أما الأجمل في المقارنة فهي لغة البردوني الواصفة فهو يختم سيمفونيته البديعة على هذا النحو:

“هناك قامت الفروق بين نزار والجواهري، وأصح الموازنات هي التي تقوم على نقيضين متفقين مختلفين، أو بين ندين كلٌّ منهما يصلى إلى قبلة أخرى، فما الذي جمع البعدين؟ إنه الموت وحده، الذي الحق نزار بالجواهري كنعش واحد تحمله القلوب النجومية، والشعر الذي يتهازج كما يتهازج نسيم الأسحار، وآيات القنوت”.

ثالثتها: مقترباته من النصوص الشعرية وأسلوبه في قراءتها واستكناه دخائلها.

في “الميلاد الثاني لنزار قباني” قال إن “نزار لم يلمّح بشرارة فجور، ولا بروائح مخدع جمال، بل قال ما يمكن مشاهدته عياناً:

أخذ الكبريت وأشعل لي ومضى كالصيف المرتحل

رجل يمنحني شعلته   ما أحلى رائحة الرجل

فكان يصدر من قراءة الجمال في وجه المليحة، أو من كؤوس الزهر، أو من شفاه القرنفل، أو من أغنيات الياسمين، وكان تغنيه بالجمال المبسوط للناس لكي يعرفوا أسراره، كما نعرف نكهة البرتقال من الصفرة البنفسجية، والحمرة القرمزية أو الشفقية، والخضرة التي تلمُّ لوامع حسنها من قطرات الندى وأشعة الشمس.

لماذا خضرة البساتين أجمل من فواتن الحسان؟ لأن تلك جاءت من ذرة بشرية، وتلك نبتت من ذرة التراب استعرضتها الشمس والقمر وعيون النجوم الثواقب.

لهذا أعطى نزار الفلسفة الجمالية نصف ملكته الشعرية، ونصف تخيّله الجنسي، ونصف حسّه بالذكورة”

رابعتها: الشعرية العالية التي تتزين بها نصوصه حين يتسلطن أو حين يحزن ويتشجن “

وكان هذان البيتان أحلى تتويج لعمر صداقة، أو لعمر قلبين امتلآ بأنقى العواطف كما لو كان كل واحد هو الآخر، وأصبح أنس المستشهد، فيكفي ديباجة الرسالة ألَّا تطول، لأن النص قد قال ما فاض به القلب”

وهناك سمة يعرفها قراء البردوني جيداً هي سمة الاستطراد، وغالباً ما يرتبط الاستطراد بأخذ المواضيع بأطراف بعض حين تكثر شجون الكلام وتتعدد أغراضه، لكن الاستطراد ينتج أحياناً عن استدعاء الأشباه والنظائر..

وهذا يحدث دائماً في كتاباته وأمثلته في الكتاب كثيرة نذكر منها ما فعله في مقال “الميلاد الثاني للشاعر نزار قباني”، فحديثه عن تحول نزار من شاعر المرأة إلى شاعر الأمة، استدعى ذكر ممهدات ذلك عند سابقيه من الشعراء الذين كتبوا “الشعر الهادف” وحولوا الهجاء من غرضه القديم وهو تتبع معيب المهجوّ إلى نضال ضد أعداء الوطن، كما روضوا المديح فنقلوه من تملق الملوك وذوي اليسار إلى الزعماء الوطنيين الصادقين، وإلى المناضلين في كل خندق. معتبراً أن أحمد شوقي يعد نموذجاً سابقاً للتحول الذي وسّعَهُ نزار، لكنه ما أن استدعى تجربة أحمد شوقي حتى استطرد في الحديث عنه وعن مسرحياته، وعن أشباهه ونظائره، وعن تطور الشعر من بعده وسطر في ذلك كلاماً طويلاً قبل أن يعود إلى نزار.

و من السمات في الكتاب وهي سمة مألوفة في كتابات البردوني عامة، الافتتاحيات التي تجمع بين التفلسف وشعرية اللغة كقوله في مطلع “بدايات متشابهات” لشدة حساسية هذا الزمن، أو لضياع أحاسيسه، تبدَّى أصمَّ أعمى لا يرى ولا يحس، ولا يتصور ولا يهجس، لأن المستحيلات قد أمكَنت ولو عند البعض..فلا يهزه من قراراته إلا الأحداث الخارقة التي تترتب على خرقها خروقات تُغير جوانبَ خفيةً وواضحةً من جوانب الحياة المعيشية والثقافية، وتمسه شخصياً أو تمس الموصول بهم.

كان هناك ما يسمى “التغاضي”، وكان ما يسمى “عدم الاكتراث”.. وهذا صحيح عن ثقة وليس عن ضياع، لكن السبب الآن مختلف لأن الغيبيات اتضحت والإخباريات تكشفت للعيان..فلم يعد الغريب غريباً، إلا إذا أحدث انفجاراً في الأزياء والألوان والأشكال، بل في الرغيف اليومي، وفي فنجان القهوة الصباحي”.

كتاب البردوني حافل باللمحات الذكية والطرائف التي تفجرها المفارقات، وفي الجزء الثاني من “رحلة على الورق” يكثف بعمق مآثر الكاتب الفرنسي الشهير “دي شاتوبريان” بوصفه واحداً من عظماء الكتاب الفرنسيين، فهو كما يصفه ” يطرح أفكاراً في قوالب من خطرات القلب، وهجسات العين، وحديث الزهرة إلى الزهرة، ونجوى قطرات الندى إلى شفاه الزهور.لأن (شاتو بريان) شاعر عظيم، لكنه كان في زمن استرق منه عظمته، انتهازاً لغير العظمة “، لكن البردوني وبعمق مماثل يكثف مثالب شخصية “شاتو بريان” الإنسانية، من خلال إساءته إلى العرب، الذين اعتبرهم ” دود يزحف على الأرض ” قال البردوني معلقاً ” وكأن (الدود) لا يستحق بنانة من الأرض يدب عليها، وهذا هو الغرور الفارغ، وسوء النظرة إلى الناس”

أما قول شا توبريان “: “طفت بمصر، ضفافاً وأودية ومدائن وقرى، فما رأيت إلا مرضى يتهالكون على مرضى”. وهذه ملاحظة ممكنة، لكن الملاحظة المستحيلة لفظت نفسها من شفتيه: “فكل مصري ومصرية مرضى بالسفلس”.

فقد علق البردوني عليه مستغرباً: “فهل كان هذا المستشرق المستطلع إلى هذا الحد من السقوط في(العورات)، لأن السفلس لا يقع إلا فيها أو على حوافها. وكيف أمكن أن يرى عورة شعب من عشرين مليوناً، آنذاك؟”

و من تقابل عظمة شاتوبريان وسقوطه معاً تفجر موقف ضاحك التقطه الروائي السوري زكريا ثامر أروع التقاط، فقد كان البردوني وثامر مع مجموعة من أهل الأدب والفن في بيروت للمشاركة في الأسبوع الثقافي اللبناني، “فقال الشيخ عبد الله العلايلي  “أنتم اليوم ضيوفي على أشهر مطعم يجيد طهي الشاتو بريان..” وكنا كلنا نعرف أن (شاتو بريان) مفكر وفنان فرنسي، ولعل التسمية انتزعت منه..

ومن سوء حظنا وحظه كان المطعم قليل العمال، ولعل أمهرهم كان غائباً في عطلة مناسَبَة، ولكن لم يسع مدير المطعم إلا أن يرحب بنا.. وكان في المطعم الشاعر أحمد الصافي النجفي، وهو يرتعش تحت الثمانين، في شملته، مجرد جلد على عظم. وهكذا كان الشاتو بريان الذي لاكته أسناننا كلحوم الجَمَل، تغري روائحه، وتنفِّر صعوبة مضغه، أو قرضه. فقال زكريا تامر للشيخ عبدالله العلايلي: “دعوتنا على شاتو بريان، فإذا بهم يقدمون لنا أحمد الصافي النجفي”..وكانت تلك أبدع نكتة، لأن (شاتو بريان) كان ممتلئاً سميناً، على حين كان أحمد الصافي النجفي جلداً على عظام..فما أسوأ هذا التطابق المتعاكس.. ولعله إحدى سيئات (شاتو بريان) في رأيه عن المشرق العربي وإنسان ابن النيل”

أما أجمل طرائف البردوني في هذا الكتاب فهي تلك التي رواها في فصل “أزمنة الثقافة .. زمان واحد” فقد ذهب مع زوجته فتحية الجرافي لتناول الغداء في مطعم باريسي، وكان على زوجته ان تتركه وحيدا في المطعم ريثما تذهب هي إلى مصرف قريب لغرض تبديل النقود التي معها من الدولار إلى الفرنك. أثناء غيابها تعرف عليه ثلاثة من الشبان العرب وانهمكوا في الحديث معه عن اللغة العربية ومشكلاتها، وحين عادت زوجته جلست غير بعيد منهم ريثما يكمل حديثه مع الشبان الثلاثة. وفي اليوم الثاني خرجت زوجته إلى الشارع ثم عادت وفي يدها صحيفة على إحدى صفحاتها صورتهما وقد كتب تحتها “هذا الشاعر رهنته زوجته في ثمن الغداء”.

شؤون البردوني الثقافية.. الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني (5-6)

شؤون البردوني الثقافية.. الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني (5-6)

خاص : علوان الجيلاني /

أن البردوني في سائر كتبه حين يقتبس رأياً فإنه في الغالب لا يورده بلفظه وإنما يعيد صياغته بلغته هو وأسلوبه، فعندما يملي على كاتبه: قال الجاحظ ” إننا تعلمنا الأدب لكي نعرفه قبل أن نصفه، لأن من الآداب ما يعرف ولا يوصف، ومنها ما يوصف ولا يعرف، وأحسن المرائي الذهنية التي يمتزج فيها رهافة حس الكاتب فتفيض المادة المكتوبة سماءً حملت نجوماً جديدة”

فإن الكلام بكل تأكيد لم يرد عند الجاحظ بنصه، وإنما هو صياغة البردوني لأقوال تناثرت في كتب الجاحظ، ويصعب حصرها من مثل قوله: ” ولما قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصرت إليه وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من يرتضى عقله ويصدّق خبره خبّرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة، فقلنا له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة”، وكذلك اقتباسه عن غاندي والأفغاني مثلاً في “مصيف الخمسينيات، أو ما أورده كمقتبس عن رأي طه حسين في المهجريين وأشعارهم تحت عنوان “تاريخ فنون”

فهو ليس كلام طه حسين بنصه، وإنما هو ترجمة مكثفة لمجمل آراء طه حسين في ما كتبه عنهم، خاصة ما كتبه عن ديوان “الجدوال” لإيليا أبو ماضي، وما كتبه عن ملحمة فوزي معلوف “على بساط الريح”، ومثل ذلك ما اقتبسه عن رد أبي العلاء حول كتابه ” الفصول والغايات”، إذ قالوا لأبي العلاء: إن هذا الكتاب غير حلو الطعم، وثقيل على اللسان، فلو يسرت لرأيت، فقال أبو العلاء ” اصقلوه في محاريبكم لكي يصبح ميسوراً أو غير معسور”، أما النص الذي تذكره الروايات فهو “أن بعض الأدباء قال له: إن كتاب الفصول والغايات جيد، إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون”

وفي مادة عنوانها “جرادة بين فنين” يناقش آراء الشاعر والمؤرخ الأدبي محمد سعيد جرادة في شعر التفعيلة، ويجره استدعاء قصيدة الشاعر أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” إلى ذكر قصة المرأة الأسطورية وإنذارها قومها حين غزاهم التبع اليماني حسان، وكان عسكره قد انتزعوا الأشجار وحملوه في محاولة لتضليل عينها، إذا كانت –كما تقول لأسطورة- ترى على بعد ثلاثة أيام، وقد روت كتب الأدب العربي صيغة إنذارها قومها بصيغ مختلفة، لكن مؤداها واحد. جاء في “العقد الفريد” لابن عبد ربه ” ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم”، وجاء في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني “قال قومها: ما ترين يا زرقاء؟.

فقالت : أرى شجرا يسير” وجاء في “آثار البلاد وأخبار العباد” للقزويني ” نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر”

لكن رواية البردوني لقول الزرقاء تختلف – فرغم موافقتها للروايات التاريخية من حيث المعنى إلا أن فيها زيادات واختلافاً في الصياغة جعلتها تبدو وكأنها وردت في حوار من مسلسل تاريخي كُتب بلغة من نسق بالغ العلو ” انظروا، إن تحت الأشجار صفوفاً تتحرك غير مسرعة، من منكم شاهد شعباً من الشعاب يُقبل إليه بأشجاره وأحجاره؟”  لقد ترجم البردوني كلام زرقاء اليمامة إلى لغته هو، فتبدى في عبارات شعرية بارعة الصياغة باذخة التخييل. وهكذا كانت لغة البردوني العظيمة تقوم معظم الوقت بتحويل ترجمة المعنى إلى ضرب من الجمال يغرينا بالبحث عن المقتبس عنه وقراءته.

لكنه أحيانا يقتبس الكلام منقولا بحرفه كما فعل في مقالته “ذكرى الأفغاني” فقد نصص أربعة عشر سطراً من مقالة الأفغاني “البيان في الانجليز والأفغان” بحذافيرها، ولعله فعل ذلك كونه يريد أن يعرف القارئ بالأفغاني فكراً وأسلوب كتابة، إذ جاء تناوله للأفغاني في سياق عودة الضجيج المشكك حوله عام 1996م، بعد أن تخافت أواره الذي أحدثته كتابات نشرها المفكر لويس عوض تحت عنوان “الإيراني الغامض في مصر: جمال الدين الأفغاني” بين نهاية 1983- وبداية 1984م. وقد اقتبس البردوني تلك الفقرات بنصها من المقال لأنها –كما يقول- “ترينا الأفغاني المثقف المعمور بالإنسان، بغض النظر عن موطنه وملته ونحلته”

على أن من أكثر ما يلفت المتابع الحصيف لكتابات البردوني هو الاستبدالان التي تقدمها ذاكرته لما نسيته من محفوظاتها الغزيرة، وهي سمة تظهر فيما كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته. وكنا ننبهه عليها فيضحك متندراً بذاكرته ومبرراً لها: لقد تقدم العمر وتأخرت الصحة.

وكانت آلية الاستبدال في استشهاداته الشعرية تقوم في أكثرها على استبدال كلمة بكلمة، كأن يملي “فَبَلّغي” بدلاً من “فعلّمي”:

في قول جميل بثينة:

فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي    نسيم الصبا يا بثن كيف أقول

لكن ذاكرته قد تستبدل أحياناً أكثر من كلمة في النص كما فعل وهو يملي هجاء أحمد شوقي للزعيم أحمد عرابي:

صَغَار في الذهاب وفي الإياب   أهذا كل شأنك يا عرابي؟

فقد استبدلت ذاكرة البردوني كلمتين في صدر البيت وعجزه فجاء هكذا:

شنار في الذهاب وفي الإياب   أهذا كل دأبك يا عرابي؟

وهو استبدال لم يخل بالمعنى؛ بل وافقه تماماً.

كذلك استبدالاته في البيت الذي اشتهر في كتب البلاغة بوصفه نموذجاً من نماذج حسن التعليل:

ما زلزلت مصر من كيد ألم بها    لكنها رقصت من عدلكم طربا

فقد استبدلت ذاكرت البردوني أربع كلمات فيه، وغيرت القافية من باء مفتوحة إلى باء مكسورة، فجاء البيت هكذا:

ما زلزلت مصر من شر أريد بها   لكنها رقصت من شدّة الطرب

أما أكثر وأطرف ما وجدت له في هذا الكتاب فهو استبدالات ذاكرته في إملاء أبيات تاج الدولة الصقلي:

رأتــنــي وقــد شـبـهـت بـالورد خـدهـا فــتــاهـت وقـالتـ: قـاس خـديَ بـالورد

كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب البان يشبهه قدي

وحق صفا ماء النعيم بوجنتي … وحسن الجبين الصلت والفاحم الجعد

لئن عاد للتشبيه يوماً حرمته … لذيذ الكرى، لا بل أذوقه فقدي

إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي

فقد أملت ذاكرة البردوني النص هكذا:

كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب الرّند يشبهه قدي

وأن ضياء الصبح وجهي وللدجى   حنين إلى المسك الذي زانه جعدي

وأن عمود الصبح يشبه قامتي    وأن ورود الشام يفتنها وردي

إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي

فما عدا كلمة “جعدي” استبدلت ذاكرة البردوني البيتين الثاني والثالث بكاملهما، وكان استبداله بطبيعة الحال أجمل وأحلى، كما أنه جاء مطبوعأ بأسلوب البردوني وطريقته في بناء البيت الشعري وهو أسلوب أكثر دربة وأعلى تجلياً.

وثمة استبدال آخر لا يقل غرابة ففي موضوع ” الثقافة تحت القنابل والنجوم” يقوده سياق مناقشته للحالة اللبنانية إلى استدعاء مقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” لمخيائيل نعيمة وهي القصيدة المحورية في إبداع الكاتب اللبناني الشهير إلى جانب قصيدة أخرى هي قصيدة “الطمأنينة” التي مطلعها:

سقف بيتي حديد  ركن بيتي حجر

فاعصفي يا رياح  وانتحب يا شجر

والقصيدتان معاً من القصائد الذائعة الصيت في تاريخ الشعر العربي المعاصر، كما أنهما بكل تأكيد من القصائد القوية الحضور في تلقيات البردوني الأولى. لكن ذاكرته وهي تستدعي ذلك المقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” قامت باستحضار المعنى فحسب، أما الفاظ النص فاستبدلتها بشكل يكاد يكون كاملاً، وهكذا كان النص في أصله عند نعيمة:

يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟

أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟

بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائقِ والزهور

تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور

أما ذاكرة البردوني فقد استحضرته على هذا النحو:

يا نهر مالك لا تقول

وأنت ينبوع السيول

فمتى ستنجاب الفصول

وتملأ الدنيا خرير

يسعى كأسراب الطيور

وهذا النوع من الاستبدالان لا يتفهم حيثيته، ويتصور إمكان حدوثه إلا من يعرفون ما أدخلته ذواكر الرواة على الشعر الجاهلي من استبدالان، كذلك لن يستغربه من سبق له أن بذل أدنى جهد في توثيق التراث الشفاهي، فهؤلاء جميعاً يعرفون أن الذاكرة خؤون، وأنها تستبدل ولا تبالي.

يكمل معكم الكاتب الحديث عن أهم أساليب البردوني الأدبية في المقال القادم، وسيكون الأخير، حيث سيختتمه بطرائف أدبية من حياة البردوني. رحمه الله.

شؤون البردوني الثقافية.. الإذاعة في حياة البردوني كمستمع (4-6)

شؤون البردوني الثقافية.. الإذاعة في حياة البردوني كمستمع (4-6)

خاص : علوان الجيلاني /

لقد التحق الأستاذ الراحل عبد الله البردوني بالإذاعة مبكراً، بل وكان من أهم الذين رسموا ملامحها التحريرية عقب ثورة 26 سبتمبر أيلول 1962 سواءً من خلال مناصبه الإدارية أو من خلال البرامج التي كتبها للإذاعة، إلا أن الأستاذ والشاعر الكبير –علوان الجيلاني، يتحدث في هذا المقال عن البردوني كمستمع للإذاعة، وكيف رصد الدور الثقافي، والتنافس البناء بين بعض الإذاعات العربية حيث يقول:

تحضر أهمية الإذاعة في حياة البردوني بوصفها نافذة معرفية بالغة الخطورة، ولأنها كانت بالغة الأهمية له على وجه الخصوص، فهي قارئه حين يغيب من يقرأون له، هناك أكثر من تناوله يناقش فيها حوارات الإذاعة وبرامجها الثقافية بوصفها مصدرا مهماً من مصادر متابعته للشأن الثقافي، وارتباطاته الشرطية بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن ذلك ما كتبه تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” عن إذاعة القاهرة وبرامج مأمون أبو شوشة وسامية صادق. ونحن في الحقيقة نقرأ في هذا الموضوع سرداً استقصائياً مذهلاً لتطور البرامج الثقافية والفنية في الإذاعات العربية من نهاية خمسينيات القرن العشرين إلى نهاية تسعينياته.وهذه الكتابة ليست الصدى الوحيد لبرامج الإذاعة في هذا الكتاب، فهناك مواد أخر مثل ” حفريات على أخاديد”.

ومن هذا المشرب مقالة عنوانها “بدايات متشابهات” تتموضع التنافس الفني بين مصر وسوريا، والبردوني إذ يتتبع أطوار التنافس منذ منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر هي الرائد الذي لا ينافس، يقوم بكشف الكثير من أسرار تفوق الدراما السورية في التسعينيات. وليس خافياً في مثل هذه التناولات تعمده تنوير القارئ بمقدار تعمده جرجرته إلى تحويل التلقيات التي صار الناس يتعاملون معها بوصفها مجرد تسليات إلى اشتباك معرفي حقيقي وناجح.

والحقيقة أن هذه استراتيجية تتراءى في أكثر ما يكتبه. فهو لا يداري رغبته في جرجرة القارىء إلى مزيد من الاطلاع والبحث، يفعل ذلك –خاصة- حين يتقصّد الكتابة على طريقة مثاقفة العارفين، إذ يعطي القارئ تلميحاً يمثل طرف الخيط ثم يدعه لفضوله؛ من ذلك على سبيل المثال؛ قوله يناقش عاتكة الخزرجي حول العباس بن الأحنف في مادة ” فن الرسائل الأدبية” “فلم تصل إليه سن العشق والغزل إلا وقد بلغ يدب على العصا، كما قال جرير. ثم لا يذكر قول جرير، لكنه يسلم الأمر لرغبة القارئ في الاستكمال والاستزادة. ولا بد بعد ذلك أن يبحث القارئ في الكتب، ليعرف أن المقصود هو قول جرير:

وتقولُ بَوْزَعُ: قدْ دببتَ على العصا. هَلاّ هَزئْتِ بغَيرنَا يا بَوْزَعُ.

ونبحر معكم في المقال القادم حول بعض السمات الأسلوبية للأستاذ البردوني، وكيف كان يقتبس ويستدعي بل ويستبدل؟ انتظرونا في المقال القادم بعنوان:

“الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني”

يمكنكم قراءة الجزء الثالث من المقال بعنوان ( شؤون البردوني الثقافية..عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً)

شؤون البردوني الثقافية.. عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً (3-6)

شؤون البردوني الثقافية.. عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً (3-6)

خاص : علوان الجيلاني /

في المقال السابق كان الحديث عن تجليات النقد في كتاب الراحل عبد الله البردوني “شؤون ثقافية”، واليوم مقترب أكثر لنخوض مع الأستاذ البردوني تفاصيل حقبة هامة من الصراع بين القديم والحديث، وكيف جمع البردوني بين الأصالة والمعاصرة؟

فقد جاء في الكتاب تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” يعود إلى النيل ممن يخلطون بين الابداع وبين الانتماء لتيار ما في الكتابة، ومن يعتبرون الانغماس في مناهضة القديم دليلا على الحداثة ” ومع هذا تجد الشعراء- الذين لم يشعروا ولن يشعروا – مجرد عصابات، أو (مافيا) يحاربون كل إنسان أتقن عمله، وكل شاعر أعطى الكلمة حقها من القول والفن، فهؤلاء غير خارجين من القاعدة، ففي كل موسم شعري يطفح الزبد ويرسب الماء النقي، فلا تخلو هذه المدرسة من شعراء مجيدين، لكنك لا تجد هؤلاء الذين يملكون الجودة حاقدين على المبدعين، ولا مقاومين للمجيدين، بدليل أن أبطال المعركة بين القديم والجديد في الخمسينيات، هم من الذين ما عرفوا قديماً، ولا أحسنوا جديداً. أما الشعراء الحقيقيون فانهمكوا في الابداع، معطين إياه كل جهودهم، مستفيدين من تجارب كل المدارس، ومن مأثورات كل قديم، ومن بديعات كل حديث بلا تحيز وبل كراهية لا تحسنها إلا الضرائر”.

وهو يدعم رأيه بمعاينات عميقة مؤزّرة بمقارنات نصية ذكية، يستعرض فيها أثر شوقي في الشابي وبشارة الخوري، وأثره في السياب أيضاً، كما يقرأ خروج واقعية نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وإبراهيم طوقان وبدوي الجبل من خريف الرومانتيكية التي لفظت أنفاسها في نهاية الأربعينيات، ومن تجليات الرمزية التي كان يجترحها في نفس الوقت شعراء مثل صلاح لبكي وصلاح الأسير وسعيد عقل ونزار قباني. ومن هذ المزيج جاءت –كما يقول – أبرز تجارب نهاية الستينيات؛ مثل تجربة أمل دنقل التي كانت أكثر التجارب قوة في السبعينيات ومنها امتدت تجارب مثل تجربتي محمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة في الثمانينيات.

 لكنه يرى أن التجارب المميزة التي قدمها أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة لم تمنع سيطرة الغثاثة التي امتدت في مصر خاصة من منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات حين ظهرت مجموعة أسماء رآها مغايرة ” ولم تسفِر المدرسة الجديدة عن وجهها الحقيقي إلا من 1995م إلى الآن -، وذلك بفضل ثلاثة من الشعراء (محمد يوسف، نهى السباعي، سناء صالح). وتبدَّت عناوين مجموعات الثلاثة موحية بالدلالة، لأن المدرسة قد أينعت ودخلت موسم النضج، كما نبهت العناوين ودل المحتوى، فجاءت عناوين محمد يوسف هكذا (اليوم الخارج عن الزمن، الليلة القصيرة بلا مصابيح)، وآخر مجموعة صدرت حينها بعنوان (شجرة الرؤيا) وهي أنضج مجموعاته، بل ومجموعات سربه الشعري.. إلا أن (نهى السباعي) كانت تبدو هازلة بما تقوله ويقوله الآخرون، إذ حملت مجموعتها الأخيرة هذا العنوان (نقرة على جبين الصخرة)، أما (سناء صالح) فسمت مجموعتها الوحيدة (وادٍ بلا ضفاف)”.

الغريب أني لم أسمع قط بهذه الأسماء، وقد استغربت كيف لم تمر عليّ رغم قوة متابعتي، ولأن الأسماء تبدو مصرية فقد سألت بعض الأصدقاء من الكتاب المصريين عنها لكنهم نفوا أي معرفة بها.

وقد كان البردوني ذكياً وهو يَلْمَحُ اختلاف التسعينين، وانقطاع تجاربهم إلى حد كبير عن تجارب سابقيهم، لكنه كان يتعامل مع ذلك الاختلاف بقسوة في أكثر الأوقات، فتحت عنوان “استقراء من بعيد”، وهي مادة انكتبت كرجع صدى لمثاقفات بثتها إذاعات مصر ولبنان حول الاحتفال بحملة نابليون وحول الحداثة، يتتبع الآراء التي تحاورت في إحدى الندوات حول التسعينين حيث دارت المقارنات بينهم وبين سابقيهم، لكن البردوني اعتبر في تعقيبه على الندوة التسعينين جيلاً بلا أصول تقوّمه وبلا نقّاد يتعهدونه، لأن أدباء التسعينيات يرون أنفسهم فوق النقد، لذلك فهو يتوقع أن يخلف التسعينيون جيلا آخر بلا أرومة.

ورغم أن الندوة التي كان البردوني يعلق عليها تتحدث عن تجربة التسعينين اللبنانيين، إلا إنه كان بتعقيبه يضرب الجميع، وكان كلامه يستهدف بعضاً من أشهر سمات جيل التسعينيات في البلاد العربية كلها، أعنى: موت المعنى، وسقوط الأيديولوجيا، وتلاشي المرجعيات الكبرى، والضجيج الواسع حول الحداثة وضرورة الانقطاع عن القديم.

وكانت قسوته أكثر وضوحاً وهو يختم تعقيبه المشار إليه بقوله ” إنهم يكتبون باللغة ونحن نعرف دلالتها وتشكلها وكيفية سبكها، ولغتهم لا تدل على سبك، ولا ترمي إلى دلالة معينة”، مضيفاً ” فقد فاتهم الكثير من التعليم، والهتهم المباراة على الحداثة عن معرفة الاجادة والأصالة.

ويتكرر توقفه عند تنافس دمشق وبيروت على الاحتفال بذكرى إيليا أبو ماضي سنة 1958م، وهو بقدر ما يثني على ذلك التنافس كونه بادرة جمالية تتوجه إلى مستحق للاحتفاء بكل المقاييس، إلا أنه هاجم بشدة ذوق الكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة الذي صعد إلى منصة تكريم زميله الراحل وبدلاً من سرد مآثره الجليلة إبداعاً وإنساناً، راح يسرد معايبه ومثالبه ونقائصه، وإذا كان جورج صيدح المسؤول عن تنظيم حفل تأبين أبو ماضي قد انتقد سماجة ما فعله نعيمة في ذلك الموقف لأن لكل مقام مقال، فإن البردوني ذهب إلى أبعد من ذلك فلمح فيما فعله نعيمة نوعاً من القصديّة تنم عن سوء طوية، فقد سبق له أن فعل ذلك مع جبران خليل جبران أهم نجوم ذلك الجيل من المهجريين، واستطرد البردوني ” لقد سبق أن شكَّ بعض القراء الجديين أنه كان يتعمد الإساءة إلى جبران في كتابه عنه، بضحوة الخمسينيات، حتى توالت الفصول والكتب في الرد على نعيمة.. ذلك لأن جبران لاح لقرائه ملكاً سماوياً يمشي على الأرض، لأنه كان يرقى إلى مثالية المثالية، وبالأخص في كتابه (النبي) و(حديقة النبي)، وفي قصيدته (المواكب). وما وجده القارئ في كتاب نعيمة (حياة جبران) إلا كثر نزوات.. فقد أوضح خديعته للسيدة (ماري هاسكيل) التي أحبته وأنفقت على تعليمه في باريس، وهو يتقلَّب في نعيم عطاياها ويقضي الليالي مع غيرها ممن تملك جسداً يفوق جسد (ماري)، وإن كانت لا تحمل روحها كما كان يتمنى. كان يخادعها جبران بأنه يجلُّها عن الفراش لأنها أعظم من أن تتمرغ في الطين.

ورأى نعيمة في هذا خديعة، وما حدثت غير مرتين، وهذه انزلاقاتٌ لا تمرّغٌ في الطينية والخدائع الدنيَّة، لأنه روحاني في كل ما كتب.. كما في قصة (خليل الكافر) إحدى قصص (الأجنحة المتمردة)”.

وفي سياق ملاحظاته على كتاب شوقي ضيف “عالمية الإسلام” يستطرد إلى مناقشة أسلوب شوقي ضيف في سائر مؤلفاته عن تاريخ الأدب العربي مؤكداً أن شوقي ضيف ” تفرد بدراسة تأثير الأدب بعضه في بعض، بطريقة الماحية، فلم يقف محللاً إلا في الأجزاء الخاصة بشعر العصور العباسية التي امتزج فيها الشعر بالغناء، والغناء بالشعر”. ويأخذ على شوقي ضيف أنه ” ردَّ سبب كثرة البحور القصيرة في الشعر العباسي إلى انتشار الغناء والفنانين، مع أن تلك المجزوءات –كما يقول البردوني – ظهرت بمقدار من العصر الجاهلي.. حتى في الموضوعات التي تستدعي طول البحر كالرثاء، فقد رثت “أم السليك” وحيدها على هذا الضرب:

طاف يبغي نجوةً

من هلاكٍ فهَلَكْ

ليت شعري ضلَّةً

 أي شيء قتلَكْ؟”

وهنا يبدو لي أنه قد فات البردوني أن علة مجيء قول أم السليك على بحر مجزوء ، هو كون شعرها كان بكاءً على ابنها، بمعنى أنه كان غناءً على طريقة المُعْزَى المعروف حتى اليوم في تهامة، وهو شعر تندب به النساء الراحلين من أهلهن، يقدمنه في سياق بكاء مغنى مؤزر بلوازم صوتية، ولا يكون إلا في بحور قصيرة. وهذا يوافق ما ذهب إليه شوقي ضيف من رد سبب كثرة البحور القصيرة في العصر العباسي إلى انتشار الغناء.

في المقال القادم نتحدث معكم عن شغفه بالإذاعة بعنوان:

“الإذاعة في حياة البردوني كمستمع”

يمكنكم قراءة الجزء الثاني من المقال ( شؤون البردوني الثقافية.. منهج النقد ونماذج منه )

شؤون البردوني الثقافية.. منهج النقد ونماذج منه (2-6).

شؤون البردوني الثقافية.. منهج النقد ونماذج منه (2-6).

خاص : علوان الجيلاني /

طفنا معكم في المقال السابق على بعض مضامين كتاب ” شؤون ثقافية ” للأستاذ البردوني، واليوم نتحدث وإياكم عن النقد ونقده من خلال نفس الكتاب.

يطرز البردوني كتابه كالمعهود عنه بسيول من الآراء تمثل خلاصة تجربته مع الكتابة والابداع والمعرفة، بمقدار ما يمثل جزء منها صدامية البردوني ومغايراته التي طالماً أثارت غبار المعارك، فهو يكرر أن التزام المدرسة الأدبية لا يخلق روائع الأدب، كما أن التقيد الصارم بالمناهج لا يخلق اقتراباً ناجحاً من النصوص، لأن الأمر في الحالتين متعلق بالمبدع والناقد، فكما أن الإمكان في الشاعر ذاته لا في المنتمى المدرسي أو المذهب الفني، فإن الإمكان في الناقد ذاته لا في المناهج التي يترسمها، إذ المذاهب الأدبية وجهات عامة، كما أن المناهج معالم وإجراءات فحسب. وإذا كانت الاجادة الإبداعية مذهب المذاهب، فإن الاقتراب النقدي الناجح منهج المناهج. وإذا كانت اللغة لا تستطيع أحيانا كثيرة إيصال ما في النفس إلى النفس لأنها محدودة بحروف وقواعد، فمن الخطل ابتغاء ذلك من المناهج وهي أكثر التزاماً بالقواعد والحدود.

وإن ترسم المناهج في مقاربة الشعر يجب أن يظل وسيلة وليس غاية لأن الشعر ليست له محددات، إذ هو يرى بعيون النجوم وليس بعيون المناهج، ذلك أن الشعر لا يقدم مناظرة على طريقة العلوم، وليس الشعراء كالاقتصاديين والجغرافيين حين يحددون الدخول والصرف بالأرقام، ويمسحون القنوات المائية بالسنتيمتر، لأن لغة الشعر احتمالية تنبض فيها إرادة الله، وتتهامس فيها أجفان النجوم.

وهذه الآراء في طيها قصديات عديدة تتعلق بموقف الأكاديميين من كتاباته النقدية والفكرية والتاريخية، كما تتعلق برأيه الأزلي الذي يزري بفكرة ربط الابداع بالمدرسة أو بالتيار الأدبي الذي يتحيز له المبدع أو ينتمي إليه.

مثل ذلك موقفه من الشهادات التاريخية التي يتناولها متندرً إذ هي كما تقول الكاتبة جورج إليوت “مجموعة مسامير تعلق عليها كل الملابس المتسخة، ولهذا يتصيدون الأكذوبة، ويبحثون عن الإثارة من حين أن يدخل الواحد منهم التاريخ شاهداً؛ وأنا أشهد أنه أول الكاذبين” وقد تعمد البردوني اقتباس تلك المقولة من “جورج إليوت” ليحولها إلى تعريض واخز بعديد المؤلفات والشهادات التي اجترح كتابتها سياسيون وقادة في اليمن خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

ورغم شغفه الواسع بطه حسين ودفاعه المستميت عنه في غير موضع من الكتاب إلا أنه يأخذ عليه تناقضه في كتاباته عن شعراء العصر كله، وهو يلفت انتباه القارئ إلى أن سبب ذلك ينبع من كون طه حسين لم يتابع أدب عصره لانشغاله بالأدب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبالأدب العربي القديم من الجاهلية حتى عصر النهضة، لذلك فإن ما ذهب إليه من اعتبار “مدرسة أبولو ومدرسة الرابطة القلمية المهاجرة من لبنان والشام مفككة اللغة رخوة المفاصل إنما يعود إلى اعتياده على قراءة القديم العربي فهو غير قادر على مغادرة صياغاته وأبنيته. منبهاً إلى أن ضعف الصياغات عند هؤلاء، إنما كان في المحاولات الأولى، والتعثر في المحاولات الأولى موجود عند كل صناع الكلمة، وقد استشهد على عدم نفوذ طه حسين الى السر الشعري في باطن الكلمة بسطحية نقده في الجزء الثالث من “حديث الأربعاء” لدالية إيليا أبي ماضي “الطين”.

 ومرة أخرى نجده يشكك في نفاذ الرأي النقدي لطه حسين عندما استدعى سخريته من قصائد كتبها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد الأسمر في تقريض ترجمة أحمد لطفي السيد كتاب “الأخلاق” لأرسطاليس، فقد قال طه حسين  إن الشعراء الثلاثة “ذكروا أرسطاطاليس ومدحوه وهم يجهلون آثاره” وقال ” ما أظن أن علمهم بهذا الكتاب يتجاوز مقدمة الأستاذ لطفي السيد، وما أحسب أنهم جميعاً قرأوا هذه المقدمة وأحاطوا بما فيها حقاً”[1]، لكن البردوني شكك في سلامة حكم طه حسين؛ لأن شوقي  كان على المام بمذاهب الفرق الإسلامية التي تناطحت بقرون الفلسفة كالمعتزلة والاشعرية، كما يتجلى ذلك من قصائده ومسرحياته، ومن كان على المام بمذاهب الفرق فليس بمحروم من الثقافة الفلسفية.

ويجوب البردوني العصور قارئاً أنساقها ومتأملاً في سياقاتها، فلطالما أتاح له ذلك تفسير الظواهر وتلمس تغايرها ورصد آثارها، ففي إحدى مقارباته المميزة يرى أن عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات كانت أكثر عقود القرن العشرين ميلاً إلى شهوة الاطلاع على السياسة كتابة وشعراً، حيث كان لكل حزب شاعر أو أكثر، وفسر ما سماه “بَرْدُ العدميةِ” في نهاية القرن “التسعينيات” بكونها امتداد تعبير عن عهد ذبول، فقد انعدمت المثيرات الحياتية معززة بفلسفة الحكم ورعب الحكم البوليسي كحالة عامة عبرت عنها قصيدة نزار قباني “المهرولون”. لكنه تحفظ على الحكم مشيراً إلى احتياج التفسير للمراجعة. ولعله حين كتب هذا لم يكن قد لمح تأثير سقوط الأيديولوجيا بعد سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور كونية العولمة، وزلزال حرب الخليج الثانية، وانهيار النموذج المميز للوحدة اليمنية كمؤثرات قوية في خلق ما سماه “بَرْدُ العَدَمِية”، ودَرَجَ التسعينيون على تسميته مرجعية الذات واختياراتها، بدل مرجعية الأيديولوجيا.

وفي الجزء الثاني من كتابةٍ تحت عنوان “تواريخ فنون” يتذكر صداقته بالكاتبة الفلسطينية سلمى الحفار الكزبري التي تعود معرفته بها الى أول ظهور عربي له في مهرجان أبي تمام في الموصل عام 1971م، وبعد أن يستعرض مكانتها الثقافية والعديد من تجلياتها الإبداعية، يذكر اختلافه معها حول محاضرتها التي القتها في تلك المناسبة عن حماسة أبي تمام، حيث اعتبرتها تاريخاً أدبياً، مسببة ذلك بكون معظم الاختيارات تتموضع وقائع تاريخية، لكن البردوني رأى في اشتغالات تلك القصائد اعتصارًا للموقف وليس توثيقًا للتاريخ. وتلك من إلماحاته الدقيقة التي تتلامع في كتاباته فتضيء النصوص وتضيء عقول القراء وفهومهم. 

 ولعل من أجمل ما في هذا الكتاب موضوع عنوانه “أسلاف الحداثة الثانية” وفيه شن البردوني هجوماً على مؤرخي الحداثة في لبنان بسبب قدحهم في الجواهري ونزار قباني، ونال في معرض هجومه من أدعياء الحداثة أو “الرفاق” كما سماهم ” يخاف المرء أن يقول إنهم قد التحوا وما اهتدوا بسلف، ولا خلقوا خلفاً؛ لأنهم ما عرفوا السابق، فكيف يرصفون الطريق للاحق؟ إن الخلف غير موجود في الحساب ولا في الحسبان؛ لأنه يجهل الطريق الذي عبره من أوله، ويجهل الوصول إليه لجهله الطريق”.

يضيف البردوني “يُسمّى نزار والجواهري عند هؤلاء قدماء” ثم يتساءل: ما صفة هذه القدامة، وما نوع رؤيتها؟ ما أعلى المهمات التي حققت؟ وهل حققت؟”

ثم يستطرد ساخراً: “إن نزاراً ظل يتابع مواسمه وهم يلعنونه في المقاهي الخافتة الأضواء، ويكتبون شعراً كثيراً لا صفة له، لأنهم لا يعرفون المعري إلا “قديماً” فقط؛ لكن هل رأوه حكيماً؟ كيف يعرفون الحكمة وما رأوا الهالة التي تلف القمر؟ لوقلت لهم: أيهما أسبق: الهالة أم الهيولي؟ لما رأوا فرقاً مادام هناك (هاء – ولام).

فهل يحتاج هؤلاء إلى مدرسة في الصغر، وإلى مكتبة لكل العمر؟ إنهم ما احتاجوا إلى النحو لأنهم يكسرون ويفتحون ويضمون –كما يقول الرفاق-؛ لكن ما أسباب الفتح والضم والكسر؟ لا يرون الفرع؛ لأنهم ما عرفوا الأصل، لهذا فهم يكتبون فناً لا يحتاج إلى ثقافة، ولا يظمأ إلى محبرة، الكتابة عندهم حداثة بلا مسمى”

يتابع البردوني سخريته: لو أنهم سئلوا عن (أدونيس) لماذا اختار (مهيار الدمشقي)؟ لما دروا لماذا اختار؛ لأنه اختار التساوي بين المعبد وحوائطه، وبين الشيطان والرحمن، وهم ما رأوا على المصحف سورة (الرحمن)، ولا رأوا (رسالة الغفران) ولا كتاب “الأيام” الذي قال عنه نزار مشخّصاً:

في كتاب الأيام نوع من الرسم   وفيه التفكير بالألوان

إن تلك الأوراق حقل من القمح فمن أين تبدأ الشفتان

إن كتاب (الأيام) سيرة ذاتية لطه حسين، ومستقى ثقافي لنزار ولهذا عُرف طه حسين من أيامه؛ لأن طه عرف أيام سلفه”

مثل تفسير البردوني جوانب عظمة الجواهري ونزار قباني وطه حسين وسلفه أبي العلاء، كان تفسيره لعظمة جمال عبد الناصر، فحين أبّن الجواهري عبد الناصر لم يؤبّن ميّتاً، وإنما جمع الزعيم والأمة في بيتين، إذ كان الجواهري يعرف أن عبد الناصر صاحب مهمات يتجه إليها لكي يبلغ ما خلفها، ولهذا جمع المجد في يد، والأخطاء في يد، لأن التجربة جناح الخطأ وجناح الصواب، والعظيم من المزيجين، أما الذي لا أخطاء له فهو الذي لم يعمل؛ لأن العمل اتجاه إلى الصواب قد يعترضه الخطأ، وهذا ما لخصه الجواهري في بيتين:

أكبرت يومك أن يكون رثاءَ  الخالدون عهدتهم أحياءَ. لا يعصم المجد الرجال وإنما كان العظيم المجد والأخطاءَ.

في المقال القادم نتوقف عند واحدة من أهم قضايا الأدب وهي الصراع بين القديم والجديد وكيف نظر إليه الأستاذ البردوني؟ وهل نظر إليه أصلاً بأنه صراع؟ من هاجم؟ ولمن انتصر؟

انتظرونا في مقال بعنوان:

عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً.

يمكنكم قراءة الجزء الأول من المقال ( شؤون البردوني الثقافية.. لمحة عن الكتاب الذي رأى النور مؤخراً )

 

 

شؤون البردوني الثقافية.. لمحة عن الكتاب الذي رأى النور مؤخراً (1-6)

شؤون البردوني الثقافية.. لمحة عن الكتاب الذي رأى النور مؤخراً (1-6)

خاص: علوان الجيلاني /

يظل البردوني أكثر أدباء اليمن عطاءً، ويظل أكثرهم عمقاً، وأقدرهم على خلق الإثارة، وتقديم المعرفة مرتبطة ارتباطاً شرطياً بالموقف الإيجابي، وبالفضاء الإنساني الذي لا تحده حدود.لقد كانت حياته عاصفة شعرية وأدبية قوية الفيضان، لكن موته كان بداية حياة أكثر عصفاً، إذ ظل هديرها يرتفع عاماً بعد عام.وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما منذ رحيله طالت قامته حتى طاولت النجوم، وتجاوزت كل من ساوره حلم ذات يوم بمجاورتها.

وإذا كان عام ٢٠٢٢م، قد استفتح أقطار وقته بضجة صاحبت صدور ديوانيه ” ابن شاب قرناها” و ” العشق في مرافئ القمر ” بعد إخفائهما مدة ٢٢ عاماً، فإن صيف العام نفسه شهد ظهور أعمال أخرى لا تقل أهميتها عن أهمية الديوانين؛ أولها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي أعجب كيف سمحنا لكل هذا الوقت أن يمرّ دون أن نصمم على نشره، وسنتناوله في عدة مقالات.

الكتاب معرض واسع لاشتباك البردوني مع هموم وشجون ومشاغل المشهد الثقافي العربي والعالمي، وهو في الوقت نفسه واحد من أكثر كتب البردوني ثراءً وتنوعاً.يصاب القارئ بالذهول وهو يتابع طيف الموضوعات التي ينتظمها محتواه؛ من المدارس والمذاهب والتيارات الأدبية والفلسفية إلى المناهج النقدية، يقارب ظهورها وظروف نشأتها، تجلياتها وأصداء كل منها في ذروة تجليه وما تركه بعد أفوله.

كما يتابع المؤتمرات الأدبية وتبدلات المشاهد الشعرية العربية وطبائع تلك التبدلات، ويناقش المقولات ومرجعياتها، ويستكنه دخائل مواقف الأدباء وأصول معاركهم. يتعالق مع الأفكار الخلاقة ويفضح الأفكار المعطلة، ويكشف عن الحقيقي المثمر، والزائف الوهمي في الابداع والحركات الأدبية. مؤشراً في نفس الوقت على الاستثنائي والعادي في الزعامات والأدب والفن، وعلى الابداع الآني والإبداع الدائم المعاصرة. السطحي الذي يروجه القطيع في حزب أو مدرسة أدبية، والحقيقي العميق الذي غالباً ما ينكره القطيع وتتبرم به المدارس، المبدعون الذين ترتفع بهم معارفهم عن السفاسف ويشغلهم الانجاز الإبداعي عن الضجيج الفارغ، والأدعياء الذين ينشغلون بالتعييب دون أن ينجزوا شيئاَ.

 ويزداد ذهول القارئ حين يعرف أن البردوني أنجز هذا الطيف المتنوع من الموضوعات الحافل بمئات الأسماء شعراءَ وروائيين ونقادًا ومفكرين وفلاسفة وفنانين وزعماء وإعلاميين، ومثلها أسماء كم هائل من الكتب والبرامج الإذاعية والمسرحيات والندوات والمهرجانات. وسيول من الإستحضارات للوقائع والتواريخ والمواقف والأحداث والأشعار والاقتباسات النثرية، يوردها في مقاربات بديعة تقديماً وعرضاً وتحليلاً ومقارنات ونقداً، حتى أنك لا تدري أتعجب بموسوعيته وثراء عوالمه ودقة ملاحظاته، وذكاء غوصه إلى عمق الحدث أو الشخصية أو الموقف أو النص، أم تعجب بفرادة لغته وبلاغة عبارته، وخصوصية أسلوبه الذي يجمع بين صبوة الشعر وقوة النفاذ إلى المقصود.

وتتسع الدهشة حين نعرف أن البردوني كتب مواد هذا الكتاب في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، وكان في ذات الوقت مشغولاً بكتابة سيرته، حيث كانت حلقاتها تتوالى على صفحات جريدة ٢٦ سبتمبر كل أسبوع، إلى جانب التزامه بكتابات لمنابر أخرى، وانشغاله بأسفار متوالية إلى عواصم مختلفة؛ أما للمشاركة في مهرجانات وملتقيات أدبية وثقافية، أو لأجل العلاج، فقد كان وقتها واحداً من نجوم المهرجانات؛ بل كان في ذروة تحققه الأدبي وحضوره الثقافي، وكان أيضاً على أبواب السبعين من عمره، وكانت أمراض الضغط والسكر ومتاعب الجهاز التنفسي تنال منه باستمرار، حتى إنه في خريف عام ١٩٩٧م تعرض لجلطة دماغية خفيفة كادت تودي بذاكرته، لو لا أن أطباء في أحد المستشفيات في العاصمة الأردنية عمان نجحوا في السيطرة عليها

عنوان الكتاب ” شؤون ثقافية” هو نفس العنوان العام الذي اختاره البردوني لمقالاته التي كانت تنشر في صحيفة الثورة يوم الاثنين من كل أسبوع على الصفحة السابعة في الغالب، ثم في ملحق الثورة الثقافي وظلت هذه الكتابات تنشر يوم الاثنين من كل أسبوع في السنوات الأربع الأخيرة من حياته، وأنجز خلالها حوالي 75 مادة، والمنشور في هذا الكتاب يقتصر على نصفها كجزء أول.

تتفاوت المواد من حيث الطول فبعضها كان يتفارد على الصفحة بكاملها، وبعضها يأخذ ثلاثة أرباعها وبعض آخر يكتفي بثلثيها أو نصفها، وأحيانا كان تكبير البنط أو تصغيره من قبل مخرج الصفحة يلعب دوراً كبيراً في استشراء مساحة المادة أو انكماشها.

أما من حيث طبيعة الموضوعات فهناك المواد ذات الموضوع الواحد، وهناك مواد تتعدد موضوعاتها وإن ظل ينظمها خيط واحد، وهذه كان يضع لها عناوين فرعية، فتضم المادة عنوانين أو ثلاثة أو أربعة، وأحياناً كانت تنوب الأرقام عن العناوين للدلالة على تعدد التناولات.

العنوان العام “شؤون ثقافية” أتاح للبردوني حرية التنقل بين طيف واسع من الموضوعات، حتى أن بعض المواد انكتبت كمتابعات لأحداث ثقافية أو إصدارات هامة، ولا يميزها عما يكتبه الآخرون من متابعات الا كونها منتقاة بسبب أهميتها أو مغزاها، وإلا كون البردوني بأسلوبه الوصفي وطرائقه في استدعاء الأشباه والنظائر يحولها إلى موضوعات أدبية حقيقية، وموائد ثقافية مذهلة. مع ذلك فإن غالبية مواد الكتاب مواضيع عميقة التناول، وتتسم بغرضية قوية الصلة بما نعرفه عن البردوني من جدية وتفوق وحرص على قراءة ما لا ينتبه الآخرون له، أو ما يعمون وربما يتعامون عنه. فالمادة بمجموعها تقع في صلب مشروع البردوني كشاعر وناقد ومفكر ومثقف كبير.

محتوى الكتاب يقدم وجها من وجوه البردوني الأدبية والثقافية الدالة على موسوعيته، وعلى قوة متابعته، ووفرة انشغالاته. ومادته بالنسبة لي ولآخرين من أبناء جيلي الذين اقتربوا من الرجل العظيم، أو كانوا يحرصون على متابعته بلهفة وشغف، يمثل جزءًا من جماليات ذاكرتنا، شخصياً كان اشتغالي على الكتاب تصحيحاً ومراجعة وتدقيقاً حالة نوستالجيا غير عادية، فكثير من مواد الكتاب أساسها مثاقفات كانت تدور بينه وبيننا نحن مريديه الشباب، يحضرها أصدقاؤه القدامى وزواره من أدباء يمنيين وعرباً، وقد سبق أن ذكر ذلك أحد محبيه الكبار؛ أعني أستاذنا الكاتب الراحل عبد الله علوان في إحدى كتاباته عنه. كما ذكره أستاذنا الدكتور عبد الرضا علي الكاتب والناقد العراقي المعروف.

حظي الشاعران نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري بمجموعة من أجمل مقاربات البردوني في هذا الكتاب، فقد كانت شجون رحيلهما على التوالي عام ١٩٩٧م، 1999م وافرة، إذ هما بقية البقية من رفاق العمود الكبار، وكلاهما كان صديقا للبردوني ومُعَظَّما عنده طوال الوقت.

لكن القاضي عبد الرحمن الارياني والشاعر محمد سعيد جرادة وعبد السلام صبرة، كانت لهم مساحة مميزة، أما الكاتبان أحمد بهاء الدين وسعد الدين وهبة اللذان رحلا عام ١٩٩٦م، فقد حظيا بوقفات أظهر البردوني فيها شغفا كبيراً بهما، ونفس المنحى تميزت به وقفاته مع طه حسين وعلي الجارم وإيليا أبو ماضي، وأبو القاسم الشابي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ونازك الملائكة والأخطل الصغير وابنه عبد الله وسلمى الحفار الكزبري، وغادة السمان

ثراء الكتاب ينبع من أسلوب البردوني نفسه، زوايا التناول، وطرائق تنضيد المواضيع، حيث يقوم بتشغيل ممكناته الأسلوبية ومعارفه الواسعة كلها أثناء الكتابة، فتناولت موضوعات الكتاب شخصيات من التاريخ استدعتها كتب أو قصائد مميزة، مثل الأخطل التغلبي وأبي نواس والعباس بن الأحنف والمتنبي وأبي العلاء المعري وابن زيدون وولادة بنت المستكفي  وأفلاطون وميكافيلي وابن خلدون ونتيشة وجان بول سارتر وشاتو بريان والبير كامو وبول إيلوار وأحمد شوقي وجيران خليل جبران وميخاييل نعيمة وعباس العقاد وإبراهيم المازني وزكي مبارك وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأمل دنقل وأدونيس ومارون عبود وجورج صيدح وحنا مينا وجابر عصفور  ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وفهد بلان ومحمد عابد الجابري وعلي أومليل ووليد مشوح و سعاد الصباح وعشرات غيرهم.

إلى جانب مواضيع ذات بعد تاريخي وحضاري مثل الحملة الفرنسية على مصر، والمقارنة بين محمد علي باشا، وجمال عبد الناصر، ورواية هتلر، أو ستعراض أعمال أدبية وثقافية لكتاب مثل شوقي ضيف وثريا العريض وعزيزة عبد الله، وكتبا تموضعت كُتاّبا مثل فرح أنطون وجميل صدقي الزهاوي.

نتحدث معكم بالتفصيل عن النقد ونقده عند البردوني

الذي تجلى في كتاب “شؤون ثقافية” في المقال القادم.