قارئ المقال
|
خاص: المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة(MCPD). إبراهيم محمد المنيفي
طفلةٌ كفيفة ترفضها المدرسة فقط لأنها كفيفة فتعود مع والدتها مكسورة الخاطر باكية العينين لأنها أول مرة تعلم بأنها كفيفة لم تعد تحب الدفتر والأقلام وعلبة الألوان التي أصرت على اقتنائها أسوة بأقرانها من الأطفال فالمديرة طلبت من والدتها أن تضعها في غرفة خاصة بها وهي “عمياء لا يمكنها أن تتعلم” هكذا كسرت المديرة مجاديف تلك الطفلة البرئة التي عادت مع أمها مكسورة الجناح وضلت تبكي وتتحسر “لماذا يضعوني في غرفة بمفردي؟ ما الذي فعلت؟!!! ترى هل ستستمع أمي لكلام تلك المديرة؟!! ترى هل أنا عمياء بالفعل! أنا لا أشعر بذلك في أسرتي لماذا لم يخبروني أنني عمياء؟! “،
تلك هي الصورة الأولى. أما الصورة الثانية فهي لشابة كفيفة تدرس إدارة أعمال دولية في إحدى أرقى الجامعات في البلد وتتخرج منها بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وتعمل حالياً مختص المتابعة والتقييم في جمعية الأمان لرعاية الكفيفات.
وبين الصورتين قصة كفاح مُلهِمة، بين الصورتين عشرات الصور والقصص، بين الصورتين عشرات الخطوات تعثرت في بعضها بطلتنا لكنها لم تظل جاثية على قدميها بل نهضت لتصنع الحلم وتحقق إنجازات يُشار إليها بالبنان، بين الصورتين قد تتوقف أيها القارئ العزيز وآلاف المكفوفين والكفيفات يحيون ذكرى رائدة العمل الخيري في اليمن الراحلة فاطمة العاقل في هذا الشهر وفي الخلفية صوت نشيد ونشيج لفتاة كفيفة تنشد بصوت حزين ،(فيضُ المشاعرِ والشجون حين الفراق غدت لحون** برحيلِ من بعطائها كانت لنا نور العيون )
صاحبة تلك الأنشودة الحزينة والكثير من أناشيد الإرادة والحث على طلب العلم والتوعية بقضايا الكفيفة ودورها في المجتمع هي بطلة قصتنا وهي صاحبة الصورتين السابقتين أيضا . فمن هي؟. هي حياة علي بن علي الأشموري من مواليد أمانة العاصمة صنعاء، فقدت بصر ها باكراً بسبب المياه البيضاء (Cataract) وعاشت طفولتةً دافئة مليئة بالحب والعطف والحنان وكما تصفها لل mcbd بأنها كانت رائعة وجميلة، ولكن ككل المكفوفين والكفيفات لابد وأن تنعكس الإعاقة البصرية على حياتهم بسبب قلة الوعي وعدم تهيئة الظروف البيئية المناسبة .
فتقول حياة الأشموري :”كنت ألعب مع رفيقاتي وكن يستثنينني من بعض الألعاب لأني لا أرى وكنت أتساءل كيف يرون؟!!” وتحدثنا حياة باعتزاز وفخر عن أختها التي تليها بسنة وكيف أنها كانت معها في كل خطوة وكيف كانت ترفض أن تلعب الألعاب التي تُستثنى منها أختها حياة وتلعب معها، وتتساءل حياة:”لا أدري كيف ستكون حياتي في الطفولة لولم يسخر الله لي أختي التي كانت تتضامن معي دائماً”
متى شعرت حياة بإعاقتها البصرية؟
تقول حياة الأشموري للMCPD : ” لم أكن أعلم بأني كفيفة بسبب التعامل الجيد من قبل الأسرة الذين لم يشعروني بذلك الشعور، وأول مرة شعرت بأني كفيفة حينما كنت متحمسة لأدرس مثل غيري و أنني سأقتني دفاتر وأقلام وألون مثل رفيقاتي ، وذهبت صحبة والدتي إلى المدرسة القريبة من منزلنا لتسجلني لكن رد مديرة المدرسة كان صادماً لي فقد رفضت وبشدة تسجيلي في المدرسة وقالت لوالدتي بالنص : “ابنتك عمياء ولا يمكن أن تتعلم وعليك أن تجعليها في غرفة خاصة بها في البيت وتهتمي بها” وتستمر حياة بسرد تلك القصة بصوت متألم وتقول:”حينها أظلمت الحياة في عيني وظللت أبكي لأيام، وكرهت الألعاب والخروج من المنزل، وكنت أحس بالقهر والإحباط الذي أصيبت به والدتي بسبب كلام تلك المديرة”.
كيف بدأت حياة مشوارها التعليمي؟
وتناهى إلى مسامع الأسرة خبر مدرسة وجمعية أسستها امرأة كفيفة لتعليم الكفيفات ورعايتهن، وكانت تلك المرأة الكفيفة هي رائدة العمل الخيري في اليمن الراحلة فاطمة العاقل، وكانت تلك الجمعية هي جمعية الأمان لرعاية الكفيفات ومعهد الشهيد فضل الحلالي. وكانت والدة حياة مندفعة لإلحاقها بجمعية الأمان للكفيفات بينما كان والدها متحفظ في البداية لخوفه على ابنته ولما يعرفه من شخصيتها العنيدة والمكابرة فقد خاف أن تتحطم كيف لا وهي التي ظلت تبكي أيام لكلام قاسي سمعته من المديرة، لكن حياة وعلى كل حال التحقت بمعهد الشهيد فضل الحلالي التابع إدارياً لجمعية الأمان للكفيفات وكانت تلك هي الانطلاقة الحقيقية لحياة والتي غيرت مجرى حياتها، حيث تقول حياة إن حياتها تغيرت جذرياً وأصبحت اجتماعية وشخصية قيادية وواثقة من نفسها كثيراً، والأهم أنها وجدت أن للمكفوفين طريقة للقراءة والكتابة تختلف عن المبصرين فأقبلت على تعلمها وتعلم مختلف وسائل المكفوفين بدافعية كبيرة.
حياة تصنع الأرقام وتحقق الحلم.
في صفحتها على الفيسبوك تصف حياة نفسها في أحد المنشورات بأنها “شقية، عفوية، مرحة، عنيدة، استثنائية لا تشبه أحد ولا أحد يشبهها” وفعلاً كانت حياة تخط طريقها بوضوح وتتجاوز مشاكل الدمج التي حدثتنا عنها كثيراً ولعل أهمها كيفية الإجابة عن الأسئلة النمطية جداً التي ظلت تجيب عليها طوال مرحلة الدمج من قبيل (كيف تأكلين؟ كيف تشربين؟ كيف تتحركي وأنتي كفيفة؟ من يرتب لك أغراضك؟). وأسئلة أخرى أكثر سطحية واستفزازاً من ذلك، وعند تخرجها من الثانوية العامة عام 2012 أثبتت حياة للجميع بأنها فعلاً عنيدة واستثنائية فقد كانت السادسة في القسم الأدبي على مستوى الجمهورية وأول كفيفة تحقق ذلك المستوى بعد عشرات السنوات من الحرمان والإقصاء على حد تعبيرها.
وعلى الرغم من كل المعيقات والعقبات إلا أن حصول حياة على الترتيب السادس على مستوى الجمهورية لم يكن سهلاً، وقد تحدثت حياة الأشموري لل mcbd عن قصة نضال كبيرة لاستحقاقها ذلك الترتيب الذي حُرمت منه في البداية لكونها كفيفة، حيث تقول:”إن وزير التربية والتعليم حينها رفض ادراج اسمي ضمن أوائل الجمهورية رغم معدلي المرتفع بحجة عدم دراسة الرياضيات والذي أعفت الوزارة المكفوفين منها بقرار رسمي لعدم توفير إمكانيات تكييفها معنا كمكفوفين” .
وتضيف حياة:”لقد وافق الوزير أخيراً على تكريمي ضمن الأوائل ولكن بشرط استحداث قسم خاص بأوائل ذوي الاحتياجات الخاصة حسب قوله، لكني رفضت بشدة ولا أدري ما تلك القوة التي جعلتني أقف في وجه الوزير وقلت له: لو أعطيتموني مليون ريال فأنا لا أريد، أنا تعبت مثل غيري وذاكرت ذات المنهج الذي ذاكره كل أوائل الجمهورية “
وبين تلك المديرة التي رفضت تسجيل حياة في المدرسة بداية دراستها وتفوقها وموقف وزارة التربية والتعليم تستذكر حياة الأشموري بفخر كبير الدور الذي قامت به مديرة مدرسة زينب للبنات مع جمعية الأمان للكفيفات لكي تحصل حياة على حقها في التكريم ضمن أوائل الجمهورية للعام 2012 وقد حققت ذلك بكل اقتدار.
التحقت حياة الأشموري بجامعة العلوم والتكنولوجيا بكلية الإدارة قسم إدارة الأعمال الدولية وتخرجت منها عام 2017 بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف. وحصلت حياة الأشموري على شهائد تقدير وخبرات كثيرة أهمها حصولها على شهادة التوفل من معهد يالي وشهادة الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب، ودبلوم اسبرينبورغ من المجلس البريطاني، ودبلوم روافد من الصندوق الاجتماعي للتنمية، وشهايد أخرى بالإضافة لحضور الكثير من ورش العمل والدورات التدريبية المختلفة.
تشكو حياة بمرارة النظرة القاصرة للفتاة الكفيفة حيث تقول لل،MCPD أنها رغم مؤهلاتها العالية وخبراتها الكثيرة كتبت سيرتها الذاتية بالغتين العربية والإنجليزية وقدمت في بعض الجهات الخاصة لكنهم رفضوا لمجرد معرفتهم أنها كفيفة وتضيف حياة:”طلبت من بعض الجهات أن أعمل لديهم متطوعة وأن أخضع للاختبار والتقييم لكنني انصدمت برفضهم القاطع” ولكن جمعية الأمان للكفيفات لم تكن لتهمل إحدى ثمرات إنجازها فاستقبلت حياة وعملت لديها في إدارة الاستجابة الإنسانية لمدة عام وتعمل حالياً مختص متابعة وتقييم في ذات الجمعية.
وتكتب حياة الأشموري منشور أسبوعي في إحدى صفحات الفيسبوك اليمنية التي يتابعها أكثر من ثلاث مائة وتسعون ألف متابع تتناول فيه مختلف قضايا المكفوفين بإسلوب شيق ومثير وتتفاعل مع المتابعين من خلال التعليقات والرد عليها باعتبارها أحد مديري الصفحة. تعتقد حياة الأشموري أنه قد تحقق للكفيفات الكثير من الإنجازات في الفترة القليلة الماضية وأنهن تمكن من سبر أغوار العديد من التخصصات الجامعية وبعضهن يحضرن الدراسات العلياء ويمتلكن مؤهلات لا بأس بها في اللغات والحاسوب، ولكن حياة تستدرك بأنه لا يزال الكثير من الطموحات لم تتحقق ومنها أن يتمكن الكفيفات من الدراسات العلياء بسهولة وتتوفر الإمكانيات اللازمة لذلك.
وتعبر حياة عن أملها بأن يكون لكل كفيفة مشروعها الخاص الذي تديره بنفسها وتعتمد من خلاله على ذاتها. وإلى هنا نكون قد انتهينا من الغوص في أعماق قصة فتاة كفيفة مثابرة وملهمة لكن حياة لم تنتهي بعد ومازالت تطمح وتتطلع لتتوفر لها الإمكانيات لتحقيق حلمها بمواصلة الدراسات العلياء خارج اليمن حيث تتوفر الإمكانيات المناسبة لفتاة عنيدة وطموحة واستثنائية. و نختم القصة على انغام صوت حياة وهي ترثي الراحلة فاطمة العاقل بصوتها الشجي
” هي ذا الكفيفةُ للأمام.. تمضي لتُمسكَ بالزمام… لِتساندوها يا كرام.. بعطائِكم وتواصلون” ..