قارئ المقال
|
خاص: المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة MCPD / أحمد علي الفقيه.
نحن الآن في مستشفى ميداني بصنعاء، هنا مئات الجرحى وعشرات الشهداء، وبينما تستمر فرق الإسعاف بجلب المزيد من الجثث والمصابين إلى المشفى ينتظم المئات من الشبان في طوابير للتبرع بالدم.
هنا في الداخل يعمل الأطباء ومساعدوهم بلا توقف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومنذ قليل وصل إلى هنا أيضاً بعض الصحفيين لتوثيق الجريمة، وبينما كان أحد المصورين يوثق للعدالة توقف مشدوهاً حينما رأى بين الجثث طفلاً يحرك يده، فأخذ يصرخ: “مازال حياً، مازال حياً أنقذوه”
لم يكن ذلك الطفل إلا نموذجاً لطفولة بائسة يعيشها أطفال اليمن
سليم غالب علي الحرازي، 1999، من منطقة مناخة حراز بمحافظة صنعاء. كمعظم أطفال اليمن يكبرون صغاراً بكبر المسؤوليات التي تلقى على كاهلهم، فقد كان سليم إلى جانب دراسته يقوم بمساعدة والده في بيع وتوزيع الكتب والصحف لأصحاب الكشكات والمحلات التجارية.
وفي أوقات الفراغ كان سليم لا يفوت فرصة ممارسة ألعابه المفضلة مثل ركوب الدراجة الهوائية ولعبة كرة القدم.
وجدت خيوط العملية ولم أجد عيوني.
يقع منزل أسرة سليم في محيط ما عُرِف حينها ب(ساحة التغيير) الميدان المقابل لجامعة صنعاء الذي اتخذ منه الشباب مكاناً لاعتصامهم إبان اندلاع ثورة الشباب 2011، وبعد صلاة الجمعة شاهد سليم ألسنة النيران تشتعل في مؤخرة الميدان، وبفضول طفل ذهب ليستكشف ماذا يجري هناك.
يقول سليم: “لقد سمعت ورأيت أشخاص يطلقون الرصاص من على المباني المجاورة للساحة، وفي تلك اللحظة أطلق علي قناص رصاصة دخلت من عيني اليسرى ومرت من تحت أنفي لتخرج من عيني اليمنى، وحينها أُغمي علي، ولم أستيقظ إلا في اليوم الثاني وعيني معصوبتين بالشاش وأرى كل شيء حولي أسود”
يستمر سليم بسرد الحادثة ويقول: “لقد تم نقلي فور إصابتي للمستشفى الميداني في حالة إغماء كامل، وعندما شاهد الأطباء حالتي اعتقدوا أنني قد فارقت الحياة ووضعوني بين الجثث، لكن أحد الصحفيين أثناء التصوير لاحظ إن إحدى يدي تتحرك، فأخبر الأطباء فقاموا بنقلي إلى مستشفى آخر، لقد انكتب لي عمراً جديداً وانتزعت من بين مخالب الموت لأن لكل إنسان قصة وقصتي حينها لم تنتهي ولما تزل”
يقول سليم: “لقد كنت أسأل الأطباء –هل بإمكاني أن أرى بعد إزالة الشاش من على عيني؟ فكانوا يجيبونني، نعم. وبعد عدة أيام تمت إزالة الشاش ولكني لم أرى شيءً، فتلمست بأصابعي مكان عيوني فلم أجد إلا خيوط العملية ولم أجد عيوني”
كيف استقبلت الحدث الجديد في حياتك؟
يجيب سليم: “كنت في عمر صغير في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري في الصف الخامس فلذلك تلقيت الخبر بعقلية الطفل فكنت واثق من أني سأرى مرة أخرى فكنت أسأل أمي -متى بتطلع لي عيون؟، لاعتقادي أن كل شيء في الإنسان ينمو مثل الشعر والأظافر.”
وبعد الإصابة بدأ الأهل والأصدقاء يتوافدون لزيارة سليم في منزله، وكان أشد من الألم على نفس سليم هي تلك الدعوات للوالدين بأن يتصبروا وبأنهم مأجورون على مصيبتهم، لقد كانت ألفاظ المواساة لوالدي سليم كالرصاص تصيب كبريائه في مقتل لأنه أصبح في نظرهم عالة وعديم الفائدة بعد أن فقد عينيه.
يذكر سليم إن تلك الزيارات استمرت حوالي خمسة أو ستة أشهر، وكان الناس ينصحون والده أن يلحقه بمدارس أو حلقات تحفيظ للقرآن الكريم لاعتقادهم أن الكفيف ليس له وسيلة إلى حفظ القرآن للحصول على مساعدة الناس، ولذلك كانوا يجلبون معهم هدايا كلها أجهزة راديو حتى يتمكن من الحفظ، في إحدى خطابات سليم قال للجمهور ساخراً: “لقد حصلت على أجهزة راديو بعددكم تقريباً”
حاول سليم كثيراً أن يقاوم تلك الرسائل السلبية وكان يطلب أن يتم السماح له بلعب الكرة وركوب الدراجة الهوائية، ولكن كان الجواب دائماً “لا لن تستطيع لأنك أعمى ستؤذي نفسك”
وهنا يعترف سليم وبصراحة يقول: “لقد بدأت تلك الرسائل السلبية تتسلل إلى داخلي وبدأت أشعر بالإحباط، ومع بداية العام الجديد كانت هناك زيارة ولكن مختلفة، نعم مختلفة تماماً لقد سألني أحد الزوار –متى ستذهب للدراسة لقد بدأ العام الجديد؟ وهنا ومع كثرة الرسائل السلبية أنا من تساءل مستغرباً –هل يمكنني أن أدرس وأنا أعمى لم أعد أرى؟، فحدثني صديقي عن إمكانية أن أواصل دراستي بشكل عادي جداً في مركز خاص بالمكفوفين لتعلم طريقة برايل قبل الدمج في المدارس العامة”
يأخذ سليم نفساً عميقاً ويقول: “لقد كانت تلك لحظة فارقة في حياتي، لقد استطعت أن أحلم من جديد بمستقبل أفضل، وبعودتي إلى المدرسة بدأت تتشكل معالم شخصية أخرى لسليم غير المحبط وغير المستسلم لكلام الناس الظالم والسلبي الذي لا يزيد صاحب المصيبة إلا مصيبة أكبر”
مواهب متعددة وأحلام ماتزال تكبر.
وعلى الرغم من أن بطل قصتنا لا يزال في المستوى الثاني بكلية الإعلام بإحدى الجامعات الخاصة إلا أنه يمتلك قدرة خطابية مبهرة تجبرك على الاستماع له حتى النهاية.
يحفظ سليم القرآن الكريم كاملاً، كما أن لديه بعض القصائد الشعرية، وبعد فقدانه للبصر أصبح شغوفاً بالقراءة والمطالعة. كما أنه يتقن اللغة الإنجليزية ويقدم دروس بها عبر الإنترنت، وبدأ بتعلم اللغة الفرنسية ويأمل أن يتقنها في وقت قريب. ولسليم الكثير من المشاركات في الفعاليات والمنصات المحلية والدولية، كما شارك في عدد من الأفلام القصيرة التي حازت بعضها جوائز عالمية.
وفي نهاية العام الماضي حصل سليم على جائزة مليار عمل سلام الدولية متفوقاً على عشرات الآلاف من المتقدمين على حد قوله.
أما أحلام وطموحات سليم فيعتقد أنها مرحلية
حيث يقول: “كل ما أكبر أجد أن حلمي يكبر معي وبإمكان الشخص تحقيق أكثر من هدف، فمثلاً بعد فقدان بصري كنت أحلم بأن أتقن اللغة الإنجليزية وذلك لأتكلم مباشرة مع الأجانب الذين كانوا يزوروني وها أنا حققت ذلك الهدف وصرت أتكلم الإنجليزية بكل طلاقة
وختاماً: يوجه سليم رسالة إلى المجتمع طالباً منهم أن يتركوا نظرة الشفقة والرحمة المبالغ فيها ويقول: “اتركوا لذوي الإعاقة فرصة ليثبتوا أنفسهم بأنفسهم ويتبوؤوا المكان الذي يستحقوه” ولزملائه ذوي الإعاقة يقول سليم: “لا تنتظروا أن تكون هناك معجزة لتغير هذا المجتمع فعليكم أن تكونوا أنتم المؤثرين في تغييره ولا تجعلوا دوركم مقتصر على الحصول على المساعدات أو طلبها