قارئ المقال
|
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
الأولى على الجمهورية في الثانوية العامة رغم رسوبها في إحدى المواد، بل أنها تُدرٍس طلاب الجامعة تلك المادة التي رسبت بها في الثانوية العامة.
من هذا العنوان الحقيقي الذي يبدو ساخراً ومتناقضاً انطلقت بطلتنا تشق طريقها، وتضع النقاط على الحروف، انطلقت بطلتنا وأثبتت أن مثل هكذا تناقض فج ما كان له أن يكون لولا تصورات مسبقة وقاصرة عن المكفوفين، إلا أن بطلتنا كسرت سجن التصورات المسبقة وأثبتت أن المكفوفين يستطيعون فعل الكثير إذا لم تسجن قدراتهم وإمكانياتهم تصورات المسؤولين وأصحاب القرار.
لم تسلط وسائل الإعلام اليمنية الضوء كثيراً على بطلة قصتنا رغم تفرد قصتها وما تمثله من إلهام، وربما لأن بطلتنا مشغولة بالأفعال وليس لديها رفاهية الوقت لتتكلم كثيراً، فتعالوا نتعرف عليها في السطور التالية:
هي – انتصار حمود العريق.
من مواليد 1994م، مديرية بني مطر جنوب صنعاء.
كفيفة منذ الولادة، فقدت ما كان لديها من بقايا بصرية في التاسعة من عمرها عند ارتطامها بجزء حاد في أحد أبواب المنزل.منذ البداية كانت أسرة انتصار على قدر كبير من المسؤولية والاهتمام، فقد بادر والدها للبحث عن إمكانية العلاج داخل اليمن وخارجها، ولم تستعِد انتصار نور عينيها، إلا أن أسرتها الجميلة المكونة من والدها ووالدتها، وأخواتها الثلاث، وأخوها نصر، كانوا هم عيونها التي لم تخذلها يوماً كما تقول.عاشت انتصار طفولة هادئة ومستقرة لا تخلو من مغامرات الطفولة الشقية والرائعة، ولم تشعر بأن هناك فرق بينها وبين أخواتها أو قريناتها من الفتيات الصغار.
فاطمة العاقل تسرج المصباح.. وانتصار تتّبع الضياء.
في السابعة من العمر عام 2001-م التحقت انتصار بمعهد الشهيد فضل الحلالي التابع لجمعية الأمان للكفيفات التي أسستها الراحلة – فاطمة العاقل،رحمها الله، كأول جمعية ومدرسة للكفيفات في اليمن.وفي المعهد تعلمت انتصار مع زميلاتها الكفيفات مبادئ طريقة برايل التي يستعملها المكفوفون للقراءة والكتابة، بالإضافة للمنهج الدراسي.
وعملاً بفلسفة دمج ذوي الإعاقة في المجتمع، يوزع المعهد طالباته الكفيفات على مدارس التعليم العام القريبة من منازلهن، أما انتصار فقد كانت محظوظة بأختها التي كانت تدرس معها في نفس الصف، ولم تواجه أي مشاكل تُذكر فقد كانت المناهج تطبع بطريقة برايل من جمعية الأمان للكفيفات بحكم استقرار المقرر الدراسي.
كيف انتزعت انتصار المركز الأول على الجمهورية؟
سطع نجم انتصار في مدارس الدمج وكان يُشار إليها بالبنان، إلا أن قرار وزارة التربية والتعليم إعفاء المكفوفين من مادة الرياضيات ابتداءً من الصف السادس فما فوق حرمها لذا المنافسة، وككل المكفوفين حُرمت انتصار حوالي 14% من درجات المعدل العام في شهادة الصف التاسع الأساسي بسبب قسمة مجموع الدرجات على 7، وهو ما يعني أن القسمة تتم حتى على مادة الرياضيات التي أعفت الوزارة منها المكفوفين.تكررت المشكلة في الثانوية، ولكن هذه المرة ليست ثانوية عامة فقط بل أن الوزارة قد رسبت انتصار في مادة الرياضيات.
ذهبت انتصار إلى الوزارة محتجة، وهناك خاضت نضالاً كبيراَ وترافعت باسم مكفوفي اليمن في الثانوية العامة، وبعد قسمة مجموع الدرجات على 7 وهي كل مواد الثالث الثانوي قسم الأدبي عدا الرياضيات كانت المفاجأة، لقد حصلت انتصار العريق بعد اتزان ميزان العدالة على المركز الأول مكرر على مستوى الجمهورية اليمنية، لقد انتصرت انتصار وكان جديرٌ بها ذلك النصر البهيج، وأصبحت أول كفيفة تحقق ذلك المركز، كان ذلك في العام 2012-2013م.
في القمة مرة أخرى.
تترقى انتصار في سلم المجد، وتقرر أن تتخصص في إدارة الأعمال بإحدى أرقى الجامعات في اليمن، وكانت من أوائل المكفوفين الذين خرجوا عن التخصصات التي عُرِفوا بها كالإسلامية، واللغات، وعلم الاجتماع وغيرها.
ذلك الإصرار وتلك الجسارة كان لها ثمن من جهد ومشقة وسهر الليالي الطوال، إذ كانت المناهج مطبوعة بطريقة برايل قليلة جداً، كذلك المناهج المسجلة صوتياً لأنها دخلت تخصص كان تواجد المكفوفين فيه نادراً، وكانت أبرز مشكلة رفض معظم الدكاترة توفير المقررات بصيغة إلكترونية لتقرأها بواسطة البرنامج الناطق على الكمبيوتر أو تقوم بتحويلها إلى طريقة برايل، تقول انتصار: “لقد رفض معظم الدكاترة منحي نسخ إلكترونية خشية الحقوق الفكرية، رغم أنني استعديت أن أوفر أي ضمانات لعدم تسرب تلك النسخ، ما جعلني أسجل المحاضرات ثم أفرغها في المنزل إلى طريقة برايل وكان ذلك الأمر غاية في الإرهاق والتعب”.
في نهاية البكالوريوس وقفت انتصار مكللة بعقود الفل على منصة التكريم، فقد كانت الأولى على دفعتها وعلى مستوى القسم بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
في ذلك اليوم أحمرت الأيدي من التصفيق للكفيفة التي قهرت كل الصعوبات وتحدت ما كان مستحيلاً يوماً ما، وكانت انتصار تهمس في داخلها وتقول: “الأيدي التي امتدت إلي بداية المشوار خيراً من هذه التي تصفق، من أعطاني كتاباً إلكترونياً أثناء دراستي أكرم ممن أهداني عقد الفل اليوم”.
“لن نوظف كفيفة عندنا”
في قمة الانبهار أثناء الحفل، تقدم أحد رجال المال والأعمال عارضاً على انتصار العمل بإحدى شركاته، كيف لا والأذكياء ثروة يتسابق عليها الجميع.
لقد ذهبت انتصار حاملةً مؤهلها المشرف ومعه طموحها في فرصة عمل تناسب تخصصها الذي أحبته بشغف، كان المدير صادقاً في وعده لكن مديرة الحسابات رفضت تماماً أن تعمل كفيفة في إدارتها، وبعد عرقلة استطاعت تلك المديرة أن تحرم انتصار فرصة العمل، لكنها لم تستطع كسر إرادتها.
حينما سألت انتصار متى شعرتي بإعاقتك؟
أجابت بألم: “لم أشعر بإعاقتي من قبل فقد كانت أسرتي نعم الأسرة، والكثير من الصعوبات تخطيتها بفضل الله والكثير من الجهد والتعب، لكنني لن أنسى ما حييت حينما تقدمت للعمل في إحدى الجامعات الخاصة، لن أنسى ذلك الموقف السيئ حينما كنت أقدم ملفي للمسؤولة المختصة وكان رئيس الجامعة يقف خلفي، فأشار للمسؤولة أن تحيلني إليه” تتابع انتصار سرد الموقف: “سألني بسخرية وهو يضغط على مخارج الأحرف: “أّنتي تتوظفي عندنا!، خلي بالك لا يمكن أقبلك عندي حتى متطوعة ولا متدربة، جامعتنا جديدة وتريدي أن يقولوا ما وجدنا غير كفيفة تشتغل عندنا”انصدمت انتصار، وحاولت أن تسجل موقف ترد فيه اعتبارها فقالت بثقة: “على الأقل انظر ملفي”
ينظر باستهتار فيرى!!، الأولى على الجمهورية في الثانوية العامة، الأولى على القسم مع مرتبة الشرف، العديد من الدورات التدريبية في الإدارة، والسكرتاريا التنفيذية، دورات في مجالات مختلفة، يرفع بصره إليها: “طيب تعالي متطوعة شهرين وسنرى”، تنتصر انتصار لكبريائها وترد: “لو قبلتني براتب مليون دولار لا يشرفني العمل لديكم” وتغادر.
بقعة ضوء.
مواقف سلبية كادت أن تستسلم لها انتصار، إلا أنها ذات يوم قررت أن تعيد التجربة في جامعة المستقبل – نذكرها بالاسم لتعميم النماذج الإيجابية والمشرقة، قدمت هناك ملفها واستقبلها المسؤولون بتقدير وترحيب كبير، ووضعوها أمام اختبار لم يكن سهلاً لأنها ستدرس مادة محاسبية تطبيقية. قبلت انتصار التحدي وأثبتت وجودها، تقول لل-MCPD: “كان أمامي في أول محاضرة 180 طالب وطالبة، لقد كان الموقف رهيباً بالفعل”.
تجيد انتصار التعامل مع عدة أنظمة محاسبية، ودرست في الجامعة مادة المبادئ المحاسبية، ومادة نقود وبنوك، ومادة بحث علمي، وأشرفت على عدة أبحاث تخرج.
انتصار قصة طموح لا تنتهي، وإرادة عصية على الانكسار، تفرغت مؤخراً من التدريس وترقت مساعد أمين كلية العلوم الإدارية بالإضافة لعملها سكرتاريا في نفس الكلية بكلما تتطلبه من أعمال، وهي على وشك انهاء رسالة الماجستير في نفس التخصص.