قارئ المقال
|
خاص : محمد الشيباني /
في مديرية حبيش بمحافظة إب الوديعة وسط اليمن، تتراءى لنا طفلة جميلة في الرابعة من عمرها تتهادى بخطواتها بين الحقول الخضراء في محافظة اقترنت بالخضرة والجو المنعش اللطيف.
تلعب تلك الطفلة الجميلة مع باقي الأطفال، تردد الأهازيج معهم، وما تلبث تلك الصورة أن تختفي حيث يعلو وجهها الشحوب وتمرض بحُمى عرفت فيما بعد أنها الحمى الشوكية، لم تغادرها الحمى إلا وقد سلبتها القدرة على الحركة فصارت من ذوات الإعاقة الحركية.
قشة مشعوذ تزيد الطين بلة.
لطيفة محمود ردمان، ضحية لجهل المجتمع وانطفاء مشعل العلم،كانت لطيفة في الرابعة نهاية السبعينات حين تعرضت للحمى الشوكية وبدلاً من أن تذهب بها أسرتها إلى الطبيب، كان والدها يأخذها على ظهره باحثاً عن العلاج ولكن في المكان الخطأ، تقول لطيفة: “لقد اعتقدت أسرتي أنها أصابتني عين نظراً لما كنت أتمتع به من بشرة ناصعة البياض، فأخذني والدي على ظهره إلى أحد المشعوذين (العرافين) الذي وضع لي مكوى على ظهري وعلى العمود الفقري تحديداً ما زاد حالتي سوءً وتقهقراً، ولم يكتفِ والدي بل ذهب كغريق يتمسك بقشة إلى دجالين آخرين حول قريتنا ولم أستفيد منهم أي شيء، وفقدت الحركة في قدمي الأثنين تماماً”
تزامن ذلك مع وجود بعثة طبية صينية في محافظة تعز المجاورة فسافر بي والدي إلى هناك متمسكاً ببصيص أمل غير أن الأوان قد فات وتأخر الوقت.
لم تكن لطيفة مستوعبة التغير الجديد في حياتها فكانت لا تزال طفلة سلب المشعوذون والجهل حركتها، لكنها وبكل براءة كانت تجثو على ركبتيها، ترفع رأسها وترمي بيديها للأعلى تحاول أن تقف فلا تستطيع، لا تعرف لماذا، هي تشاهد الأطفال وبنات قريتها يلعبون ويجرون هنا وهناك وتريد أن تلعب معهم، تريد أن تطاردهم فلا تستطيع.
تصف لنا لطيفة حسها المرهف بشاعرية وتقول: “كنت أنظر لصديقاتي بصمت حزين، وأتأمل حيويتهن وحركاتهن، وهن يقفزن وفساتينهن كجناح طائر في الهواء”
لا تتوقف لطيفة تجثوا مرة أخرى على ركبتيها واضعةً يديها على الأرض وتدفع جسدها الصغير المنهك فتتحرك، تقرر لطيفة أن تحبوا على يديها وتمارس حياتها بهذا الشكل.
لم تكن تلك الصدمة الوحيدة في طفولة لطيفة، فقد كانت تنتظرها فاجعة أخرى أكبر من قدرة قلبها الصغير على الاحتمال فقد مزقت الحادثة روحها من الداخل كما تقول، لقد فقدت والدتها وهي في الخامسة من عمرها ولم تعد ترى حنان الأم ولا عطفها فقط كانت تسمع الحديث عن والدتها من أفراد أسرتها وهي موقنة أنها ذهبت إلى الله ولن تعود.
فوق الصبر.
سافرت لطيفة مع أخوها الأكبر الذي تصفه بالظهر والسند إلى الهند لتلقي العلاج، حيث خضعت لجلسات تدريبية وعلاجية متقدمة في العلاج الطبيعي استمرت أكثر من عام، وفعلاً استعادت قدرتها على الوقوف، لقد كان شعور لطيفة بعد وقوفها على العكاكيز أكبر من أن تصفه الكلمات على حد تعبيرها.
تقول لطيفة: ” كنت أتخيل عند عودتنا لليمن أنني سأرى فرحة والدي بوقوفي على قدمي وقدرتي على المشي بالعكاز بعد خضوعي للعلاج الطبيعي, وكنت أتصوره أمامي وأقرأ ملامح الابتسامة والبشاشة في وجهه اللطيف”
وفي إحدى الليالي بينما كانت لطيفة تداري خيالاتها وتسبح في بحر من الأفكار تلقت مع أخوها خبراً صادماً وأليماً وموجعاً، لقد انتقل والدهما إلى رحمة الله.
لقد كانت الصدمة كبيرة لا سيما أنهما في بلاد بعيدة، ولم تتمكن العائلة من تأمين استمرار العلاج الطبيعي في الهند فرجعا إلى اليمن.
أبوة الأخ.. ومدير المدرسة النموذج.
لقد عاشت لطيفة بعد عودتها إلى اليمن في كنف أخوها وزوجته الطيبة والحنونة الذين اجتهدا ليعوضاها حنان الأم والأب.
لقد التحقت بالمدرسة بنظام المنازل، وكان أخوها يستقدم المعلمين إلى المنزل لتعليم لطيفة ووقت الامتحانات تذهب إلى المدرسة، وبعد الصف الرابع انتقلت العائلة للعيش والسكن في صنعاء.
تم تسجيل لطيفة في مدرسة الحي الذي كان مديرها نموذج تربوي يحتذى به، فقد قرر أن يكون الفصل الذي تلتحق به لطيفة في كل عام في الدور الأول
صديقاتها هن الأخريات كن نموذجاً رائعاً فقد احتوين لطيفة وتعاملن معها كواحدة منهن، في هذا السياق تقول لطيفة: “كانت لدي صديقة تحتويني وتحمل معي حقيبتي وتشعرني بوجودي بينهن ولن أنسى لها ذلك الصنيع”
إيجابية التوجيه يصنع قيادات.
إن كان من مكان يوازي الأسرة فهي جمعيات ذوي الإعاقة الإيجابية والفعالة التي تأخذ بأيدي أبنائها وهذا تماماً ما جرى مع لطيفة في جمعية المعاقين حركياً الجمعية التي تنتمي إليها، تقول لطيفة: “لقد كن المعلمات يحثيننا على الالتحاق بمختلف الدورات وتنمية مهاراتنا وابداعاتنا حتى نكون مؤهلات لسوق العمل”.
والتحقت لطيفة بعدة دورات في الخياطة، والحاسوب، واللغة الإنجليزية وغيرها الكثير.
انهمكت لطيفة بحب وشغف في العمل مع مركز السلام التابع لجمعية المعاقين حركياً ووظيفتها في الشؤون الاجتماعية كمنسقة لحقوق الطفل، ما حال دون تمكنها من التعليم الجامعي.
لقد أصبحت لطيفة بعزيمتها وإرادتها واحدة من أبرز وجوه ناشطات ونشطاء ذوي الإعاقة في اليمن، ونظراً لاهتمامها وتركيزها على حقوق الأطفال عموماً والأطفال ذوي الإعاقة خصوصاً فقد عُرِفت بينهم “ماما لطيفة” وهو النداء الذي تقول إنه يسعدها كثيراً، ولا غرابة فقد كانت من أبرز المؤسسين لمركز السلام للمعاقين حركياً.
وتتلخص رسالة لطيفة: في أن الحياة لا تتوقف مهما كانت الصعوبات والأزمات فعلينا أن نكون أقوى منها كما تقول، وأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في القوانين المحلية والتشريعات الدولية يجب أن يحصلوا عليها، وإن على ذوي الإعاقة الدور الأكبر للمطالبة الحثيثة وعدم السكوت عن حقوقهم في كل وقت وفي أي مكان.