قارئ المقال
|
خاص : علوان الجيلاني /
أن البردوني في سائر كتبه حين يقتبس رأياً فإنه في الغالب لا يورده بلفظه وإنما يعيد صياغته بلغته هو وأسلوبه، فعندما يملي على كاتبه: قال الجاحظ ” إننا تعلمنا الأدب لكي نعرفه قبل أن نصفه، لأن من الآداب ما يعرف ولا يوصف، ومنها ما يوصف ولا يعرف، وأحسن المرائي الذهنية التي يمتزج فيها رهافة حس الكاتب فتفيض المادة المكتوبة سماءً حملت نجوماً جديدة”
فإن الكلام بكل تأكيد لم يرد عند الجاحظ بنصه، وإنما هو صياغة البردوني لأقوال تناثرت في كتب الجاحظ، ويصعب حصرها من مثل قوله: ” ولما قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصرت إليه وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من يرتضى عقله ويصدّق خبره خبّرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة، فقلنا له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة”، وكذلك اقتباسه عن غاندي والأفغاني مثلاً في “مصيف الخمسينيات، أو ما أورده كمقتبس عن رأي طه حسين في المهجريين وأشعارهم تحت عنوان “تاريخ فنون”
فهو ليس كلام طه حسين بنصه، وإنما هو ترجمة مكثفة لمجمل آراء طه حسين في ما كتبه عنهم، خاصة ما كتبه عن ديوان “الجدوال” لإيليا أبو ماضي، وما كتبه عن ملحمة فوزي معلوف “على بساط الريح”، ومثل ذلك ما اقتبسه عن رد أبي العلاء حول كتابه ” الفصول والغايات”، إذ قالوا لأبي العلاء: إن هذا الكتاب غير حلو الطعم، وثقيل على اللسان، فلو يسرت لرأيت، فقال أبو العلاء ” اصقلوه في محاريبكم لكي يصبح ميسوراً أو غير معسور”، أما النص الذي تذكره الروايات فهو “أن بعض الأدباء قال له: إن كتاب الفصول والغايات جيد، إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون”
وفي مادة عنوانها “جرادة بين فنين” يناقش آراء الشاعر والمؤرخ الأدبي محمد سعيد جرادة في شعر التفعيلة، ويجره استدعاء قصيدة الشاعر أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” إلى ذكر قصة المرأة الأسطورية وإنذارها قومها حين غزاهم التبع اليماني حسان، وكان عسكره قد انتزعوا الأشجار وحملوه في محاولة لتضليل عينها، إذا كانت –كما تقول لأسطورة- ترى على بعد ثلاثة أيام، وقد روت كتب الأدب العربي صيغة إنذارها قومها بصيغ مختلفة، لكن مؤداها واحد. جاء في “العقد الفريد” لابن عبد ربه ” ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم”، وجاء في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني “قال قومها: ما ترين يا زرقاء؟.
فقالت : أرى شجرا يسير” وجاء في “آثار البلاد وأخبار العباد” للقزويني ” نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر”
لكن رواية البردوني لقول الزرقاء تختلف – فرغم موافقتها للروايات التاريخية من حيث المعنى إلا أن فيها زيادات واختلافاً في الصياغة جعلتها تبدو وكأنها وردت في حوار من مسلسل تاريخي كُتب بلغة من نسق بالغ العلو ” انظروا، إن تحت الأشجار صفوفاً تتحرك غير مسرعة، من منكم شاهد شعباً من الشعاب يُقبل إليه بأشجاره وأحجاره؟” لقد ترجم البردوني كلام زرقاء اليمامة إلى لغته هو، فتبدى في عبارات شعرية بارعة الصياغة باذخة التخييل. وهكذا كانت لغة البردوني العظيمة تقوم معظم الوقت بتحويل ترجمة المعنى إلى ضرب من الجمال يغرينا بالبحث عن المقتبس عنه وقراءته.
لكنه أحيانا يقتبس الكلام منقولا بحرفه كما فعل في مقالته “ذكرى الأفغاني” فقد نصص أربعة عشر سطراً من مقالة الأفغاني “البيان في الانجليز والأفغان” بحذافيرها، ولعله فعل ذلك كونه يريد أن يعرف القارئ بالأفغاني فكراً وأسلوب كتابة، إذ جاء تناوله للأفغاني في سياق عودة الضجيج المشكك حوله عام 1996م، بعد أن تخافت أواره الذي أحدثته كتابات نشرها المفكر لويس عوض تحت عنوان “الإيراني الغامض في مصر: جمال الدين الأفغاني” بين نهاية 1983- وبداية 1984م. وقد اقتبس البردوني تلك الفقرات بنصها من المقال لأنها –كما يقول- “ترينا الأفغاني المثقف المعمور بالإنسان، بغض النظر عن موطنه وملته ونحلته”
على أن من أكثر ما يلفت المتابع الحصيف لكتابات البردوني هو الاستبدالان التي تقدمها ذاكرته لما نسيته من محفوظاتها الغزيرة، وهي سمة تظهر فيما كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته. وكنا ننبهه عليها فيضحك متندراً بذاكرته ومبرراً لها: لقد تقدم العمر وتأخرت الصحة.
وكانت آلية الاستبدال في استشهاداته الشعرية تقوم في أكثرها على استبدال كلمة بكلمة، كأن يملي “فَبَلّغي” بدلاً من “فعلّمي”:
في قول جميل بثينة:
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي نسيم الصبا يا بثن كيف أقول
لكن ذاكرته قد تستبدل أحياناً أكثر من كلمة في النص كما فعل وهو يملي هجاء أحمد شوقي للزعيم أحمد عرابي:
صَغَار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي؟
فقد استبدلت ذاكرة البردوني كلمتين في صدر البيت وعجزه فجاء هكذا:
شنار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل دأبك يا عرابي؟
وهو استبدال لم يخل بالمعنى؛ بل وافقه تماماً.
كذلك استبدالاته في البيت الذي اشتهر في كتب البلاغة بوصفه نموذجاً من نماذج حسن التعليل:
ما زلزلت مصر من كيد ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
فقد استبدلت ذاكرت البردوني أربع كلمات فيه، وغيرت القافية من باء مفتوحة إلى باء مكسورة، فجاء البيت هكذا:
ما زلزلت مصر من شر أريد بها لكنها رقصت من شدّة الطرب
أما أكثر وأطرف ما وجدت له في هذا الكتاب فهو استبدالات ذاكرته في إملاء أبيات تاج الدولة الصقلي:
رأتــنــي وقــد شـبـهـت بـالورد خـدهـا فــتــاهـت وقـالتـ: قـاس خـديَ بـالورد
كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب البان يشبهه قدي
وحق صفا ماء النعيم بوجنتي … وحسن الجبين الصلت والفاحم الجعد
لئن عاد للتشبيه يوماً حرمته … لذيذ الكرى، لا بل أذوقه فقدي
إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي
فقد أملت ذاكرة البردوني النص هكذا:
كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب الرّند يشبهه قدي
وأن ضياء الصبح وجهي وللدجى حنين إلى المسك الذي زانه جعدي
وأن عمود الصبح يشبه قامتي وأن ورود الشام يفتنها وردي
إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي
فما عدا كلمة “جعدي” استبدلت ذاكرة البردوني البيتين الثاني والثالث بكاملهما، وكان استبداله بطبيعة الحال أجمل وأحلى، كما أنه جاء مطبوعأ بأسلوب البردوني وطريقته في بناء البيت الشعري وهو أسلوب أكثر دربة وأعلى تجلياً.
وثمة استبدال آخر لا يقل غرابة ففي موضوع ” الثقافة تحت القنابل والنجوم” يقوده سياق مناقشته للحالة اللبنانية إلى استدعاء مقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” لمخيائيل نعيمة وهي القصيدة المحورية في إبداع الكاتب اللبناني الشهير إلى جانب قصيدة أخرى هي قصيدة “الطمأنينة” التي مطلعها:
سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
والقصيدتان معاً من القصائد الذائعة الصيت في تاريخ الشعر العربي المعاصر، كما أنهما بكل تأكيد من القصائد القوية الحضور في تلقيات البردوني الأولى. لكن ذاكرته وهي تستدعي ذلك المقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” قامت باستحضار المعنى فحسب، أما الفاظ النص فاستبدلتها بشكل يكاد يكون كاملاً، وهكذا كان النص في أصله عند نعيمة:
يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟
بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائقِ والزهور
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور
أما ذاكرة البردوني فقد استحضرته على هذا النحو:
يا نهر مالك لا تقول
وأنت ينبوع السيول
فمتى ستنجاب الفصول
وتملأ الدنيا خرير
يسعى كأسراب الطيور
وهذا النوع من الاستبدالان لا يتفهم حيثيته، ويتصور إمكان حدوثه إلا من يعرفون ما أدخلته ذواكر الرواة على الشعر الجاهلي من استبدالان، كذلك لن يستغربه من سبق له أن بذل أدنى جهد في توثيق التراث الشفاهي، فهؤلاء جميعاً يعرفون أن الذاكرة خؤون، وأنها تستبدل ولا تبالي.
يكمل معكم الكاتب الحديث عن أهم أساليب البردوني الأدبية في المقال القادم، وسيكون الأخير، حيث سيختتمه بطرائف أدبية من حياة البردوني. رحمه الله.