في مطلع التسعينات في مديرية بلاد الروس التابعة لمحافظة صنعاء والتي تُبعد عنها 32 كيلو متراً، كانت فاطمة مجاهد الحاج، الطفلة ذات الاثنا عشر عاماً تشارك صديقاتها اللعب بكل براءة، وفي كل صباح تحمل حقيبتها معهن ذهاباً إلى المدرسة، ولا تخلو رحلة الطريق من بعض مشاكسات الأطفال المعروفة.
ولكن ذات يوم افتقدن الفتيات صديقتهن فاطمة فلم تحضر معهن إلى المدرسة، وتبع اليوم أيام والفتيات يتساءلن “لماذا غابت فاطمة؟ ترى هل تركت المدرسة كالكثير من الفتيات اللواتي يمنعهن أهاليهن من مواصلة التعليم!؟ إنه أمرٌ مؤسف”
في منزل فاطمة كان الأمر مختلف، إن فاطمة طريحة الفراش تعاني الحمى التي تشتد بها أكثر وأكثر.
تجلس أم فاطمة بجوار ابنتها وتضمها إلى صدرها بحنان، وتضع لها بعض الكمادات الباردة، غير أن درجة حرارة جسمها لا تنخفض، فتقف الأم حائرة وتكف عن المحاولة اعتقاداً منها أنها حمى موسمية ولابد أنها ستزول، وما لم تكن قد سمعت بها الأم من قبل هي “الحمى الشوكية” وهذا ما جرى لفاطمة للأسف.
لقد أصيبت فاطمة بحمى شوكية أورثتها إعاقة حركية شديدة، فتوقفت عن التعليم، إذ كيف ستذهب وتعود من المدرسة في قرية بضواحي صنعاء لا تتوفر فيها أدنى مقومات البيئة المناسبة لحركة الكرسي المتحرك، فضلاً عن عدم معرفة الأسرة لكيفية التعامل وماهي حاجات ابنتهم في وضعها الجديد.
فاطمة تستعيد زمام المبادرة.
ليست المشكلة أن تتوقف، المشكلة ألا تستعيد قواك وتواصل المسير، المشكلة ليست في أن يحل بك الظلام، المشكلة أن تستمر تلعنه ولا تبادر حتى لتضيء شمعة.
رغم توقف فاطمة عدة سنوات عن التعليم إلا أنها عادت بقوة وعزيمة كبيرة، فالتحقت بالمدرسة وهي في الخامسة عشر من عمرها، وهي اليوم تدرس في جامعة صنعاء تخصص إدارة أعمال طبية، وتؤكد لل-MCPD أن طموحاتها كبيرة وعالية فتقول: “أطمح أن أواصل الدراسات العليا في تخصصي وأنا واثقة من أني سأصل”.
ومن ناحية أخرى تعد فاطمة الحاج وجهاً معروفاً بين الرياضيات ذوات الإعاقة في اليمن، وتمارس كرة السلة منذ خمس سنوات ضمن نادي تدريبي على نفقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن.
من رحم الحاجة.. يصنع مشغولاتهن بمهارة.
تسكن فاطمة الحاج في سكن الطالبات التابع للجامعة، وتختلط بالطالبات القادمات من محافظات وبيئات مختلفة للتبادل معهن الخبرات والمهارات المختلفة.
وفي سكن الطالبات يجمع القدر بين فاطمة وأربع طالبات أخريات من ذوات الإعاقة الحركية التي تتفاوت إعاقتهن بين الشديدة والخفيفة، فيتشاركن الهم والقضية سوياً، ويكسرن غربة الأهل بألفة التلاقي عل القواسم المشتركة، قواسم طبيعة الإعاقة، والدراسة، والإعباء المترتبة على ذلك فيقرِرن اللقيام بعمل مشروع مشترك يقيهن ذل الحاجة والعوز، تقول فاطمة لل-MCPD: “قررنا عمل بعض المستلزمات الخاصة بالفتيات من عطور، وبخور، وزباد، كما أننا نقوم بصناعة المباخر وتطريزها، وصناعة أحزمة العسوب اليدوية (العسوب جمع عسيب وهو الحزام الذي يلفه اليمنيون حولهم وفي منتصفه أمام البطن خنجر يسمى الجنبية، وهو من أشهر الملبوسات الشعبية اليمنية)”، وتواصل: “كل ذلك من أجل الاعتماد على أنفسنا في تغطية مصاريفنا من رسوم السكن، والكتب، والتغذية، وغيرها من مصاريف الطالبات في الجامعة”
تقول فاطمة أنها وصديقاتها الأربع لم يستطعن فتح محل خاص بهن أو طرح منتجاتهن في محل، ولا يستطعن الذهاب للسوق بشكل عادي نتيجة كثرة العوائق والحواجز البيئية، ما جعلهن يطرحن منتجاتهن عبر مجموعات في تطبيق الواتساب وهو ما لاقى إقبالاً لا بأس به.
ويتحن للزبونات زيارتهن للسكن الذي يقمن فيه لمشاهدة المنتجات.
تتحدث فاطمة عن أهمية التعاون والتكامل وتؤكد أنها وزميلاتها يتكاملن في إنتاج وصناعة المنتجات ولا يحتجن لمساعدة فتيات أخريات خارج المجموعة.
وعن الإقبال على شراء المنتجات تقول لنا فاطمة: “أنا بالدرجة الأولى طالبة ودراستي هي الأهم، وهذه المنتجات والأشغال مشروع قمنا به حتى نتمكن من مواجهة أعباء ومصاريف الدراسة ولا أنكر أنه صار شغف، لذلك نهتم بجودة المنتج وإرضاء زبوناتنا من الفتيات، أما الإقبال على المنتجات فيختلف: فمن تشتري منا المرة الأولى تعود وتطلب مرة أخرى وربما أخبرت صديقاتها، هذا من جانب ومن جانب آخر تختلف حركة البيع باختلاف الموسم، فمواسم الأعياد لها منتجاتها، ومواسم الأعراس لها منتجاتها وهكذا”.
فاطمة وصديقاتها قصة إلهام وعصامية واعتماد على الذات جدير بها أن تكون نموذجاً يُحتذى، وجدير بمؤسسات ذوي الإعاقة أن تقف إلى جوارهن، وأما المجتمع فحري به أن يشجع مثل هكذا نماذج، فاطمة وصديقاتها لا يحتجن يد لتوقفهن فقد وقفن ويحتجن فقط إلى مساندة.
أما رسالة فاطمة فننقلها حرفياً تقول: “نحن قادرات على الاعتماد على ذواتنا، لا نمد أيدينا لأحد ولا نذل أنفسنا لمخلوق”، وتضيف: “إذا أردتم دعمنا فلا تعطونا مالاً نستهلكه فترة ثم ينتهي، بل ساعدونا لفتح مشاريعنا وتطويرها وعلينا الباقي”.