بقلم: -إبراهيم محمد المنيفي.
“ألوه صباح الخير يا أستاذ.”
“صباح النور.”
“عندنا إشكالية في المؤسسة وحبيت استشيرك.”
“خير ما الذي حصل؟”
“في مؤسستنا برنامج لتدريب الأطفال في مجال ……. لإعدادهم للمشاركة في مسابقة دولية في هذا المجال، ولدينا أطفال مكفوفين.”
“وأين المشكلة بالضبط؟ هل تريدون طرق أو استراتيجيات معينة لتدريسهم؟”
“إطلاقاً عندنا كادر مؤهل ولا توجد مشكلة بهذا الخصوص، المشكلة أن بعض أولياء الأمور رافضين أن يتدرب أطفالهم مع الأطفال المكفوفين لأنهم يقولون أنهم يخافون أو ينزعجون من شكل أعينهم.”
استمع في اندهاش. وتستمر هي: “بعد أخذ ورد ما يزال بعض أولياء الأمور مصرين أن نلزم الأطفال المكفوفين لدينا بارتداء نظارات شمسية حتى ما ينزعج أطفالهم، ونحن لا نستطيع إجبار الأطفال المكفوفين على مثل هكذا أمر، ونريد توعية أولياء الأمور، فما الذي نفعل؟.”
هذا مضمون مكالمة هاتفية تلقيتها صباح اليوم، ودعوني ألبس النظارات حتى أستطيع أن أناقشكم يا كرام.
يبدو أن علينا أن نراجع خطابنا قليلاً وننزل من أبراجنا العاجية، فعلينا أن نؤجل الطرح عن حقنا كمكفوفين في تذليل بعض العقبات في الدراسات العليا، وعلينا أن نؤجل أيضاً مخاطبة الدولة والمجتمع بحق المكفوفين وذوي الإعاقة في الاندماج في كل مناشط المجتمع الثقافية والاقتصادية والسياسية، وعن حق ذوي الإعاقة في العمل والكسب بعرق جبينهم وتكوين أسرهم الخاصة بهم.
علينا أن نؤجل الحديث عن القانون والاتفاقية الدولية لذوي الإعاقة والمنظور الحقوقي الحديث للإعاقة الذي يتبناه العالم، ونترك تلك الأدبيات لمن اعتادوا السفريات وعقد ورش العمل بآلاف الدولارات ونكون معنيين أكثر بمخاطبة المجتمع فهو الوسط والبيئة التي يعيش فيها ذوي الإعاقة فعلاً، وعموم الناس لا تحضر ورش العمل العبثية التي لم تغير في الواقع ما يستحق الذكر.
نحن مضطرون أن نرجع إلى مربع الصفر ونطالب بحقنا في الحياة على أساس الكرامة الإنسانية وعدم التمييز.
نحن مضطرون أن نرجع إلى البداية ونقول لأفراد مجتمعنا أننا رغم اختلاف شكل أعيننا إلا أننا بشر ولدينا مشاعر أيضاً، وأن اختلاف شكل أعيننا لا ينقص من درجتنا الإنسانية كون النظر وسيلة أوجدنا عنها بدائل وتعايشنا معها وهذا شأننا.
من ثقافتنا الشعبية: “الذي ما يجرح ما يداوي” لذلك اسمحوا لنا أن نصارحكم:
حينما نسمعكم تمدحوننا وتقولون: “أنتم أفضل منا والعمى عمى القلب” نبتسم ابتسامة صفراء ونشكركم لكننا نعلم في داخلنا أنكم تنظرون إلينا بنقص وتعوضون هذه النظرة ببيعنا الوهم، وعند أول اختبار لا تمنحونا حتى فرصة المنافسة.
حينما تصفقون بحرارة لإنجازاتنا العادية وربما التي لا تستحق التصفيق ندرك أننا قدمنا شيء فوق توقعاتكم، وأن توقعاتكم عنا في الحضيض لذلك تنبهرون، وتصفيقكم الحار لنا مجرد مجاملة سخيفة.
نحن ندرك أن قطاع كبير من المجتمع ينظر لنا أما كمتسولين مكانهم الجولات، أو قديسين ودراويش في زوايا المساجد ومجرد وسيلة لكسب الأجر، ومع ذلك نعول على القلة من الفئة الواعية ونقول: “مجتمعنا واعي ورائع ومتعاون”
أدرك أن هناك من سيعترض أو تعترض على كلامي وتقول أو يقول: “بالعكس نحن ننظر للكفيف والمعاق عموماً كجزء منا له حقوق وعليه واجبات، ولا يختلف عنا بشيء، ونحترمه ونحترم كل حقوقه التي يحترمها كل العالم”، لكن لو أتى شخص كفيف متدين ومتعلم ومقتدر لطلب يد ابنتك مثلاً سترفضه لا لشيء إلا لأنه كفيف، نحن مجتمعات نكذب على أنفسنا ونغالطها بشكل رهيب، لذلك تضل أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نار تحت الرماد، وكما قال أحدهم “نحن نخشى نشر الغسيل أكثر مما نخشى الغسيل نفسه.”
الكثير من المسؤولين وأصحاب القرار في الدولة ومنظمات المجتمع المدني يبيعوننا الوهم ويقولون أنهم يؤمنون بقدراتنا بل وذهب بعضهم لاستيراد مصطلحات غبية مثل: “أصحاب الهمم، ذوي القدرات” وغيرها، بينما في الحقيقة لا يمنحونا حتى فرصة المنافسة.
دول العالم المحترمة تخطت الحقوق الأساسية في الحياة والمساواة والتعليم والعمل وحرية التعبير بخطوات ومراحل كبيرة وسنوات ضوئية فبينما نحن نمنح الكفيف Mp3 كوسيلة تعليمية ويتساءل بعض قراء هذه السطور “من بيكتب لهذا الأعمى” هم يناقشون حق الكفيف في الترفيه ولزوم أن تكون الألعاب الإلكترونية متوافقة مع برامج قارئات الشاشة الناطقة.
قتلتني رسالة من أحدهم حينما قال: “المعذرة: الفيديوهات التي تُعرض لكفيفات ينبغي عرضها بالنظارة السوداء، أو ينبغي ألا تُعرض البتة، من الآن وصاعداً فإن هاتفي مُتاح في يد أطفالي”، بقي فقط أن يقول الرجاء الكتابة عليها +18 للكبار فقط.
حتى الكثير ممن يقفون معنا هم يقفون تعاطفاً لا تضامناً وشتان بين الأمرين، فهم مثلاً سيدافعون عنا بذكر قصة الصحابي عبد الله بن أم مكتوم، وكيف أن الله عاتب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يُنصت له بآيات تتلى إلى يوم القيامة، وقد سمعت هذه القصة في حياتي ألف مرة، لكنهم لن يتطرقوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه واستخلفه على المدينة 14 مرة والمدينة معروفة بتعقيداتها السياسية والفكرية حينها، لن يقولوا لنا أن استخلاف بن أم مكتوم على المدينة في ظل تلك التعقيدات يدل على فطنة الرجل وحنكته وحق المكفوفين في تولي أهم وأخطر مناصب الدولة، عفواً للأمانة العلمية لم أتأكد –هل كان بن أم مكتوم يرتدي نظارة أم لا.
همسة قبل الختام: يعتبر العلاج بالصدمة أحد الطرق الفعالة وهذا ما هدفت إليه من طرحي الذي ربما بدا لكم حاداً، لكن هي مشاكلنا كمجتمع ويجب أن نكون صادقين وموضوعيين في معالجتها، وهناك نماذج إيجابية ومشرقة تمثل نبراس أمل وتحمل مشعل وعي لم أعنيهم بهذا المقال.
وختاماً الحديث يطول، ومن رأى في كلامي بعض التحامل والهجوم فليعذرني لأني كتبت المقال وأنا لا أرتدي نظارة لأن عيني تؤلمني إذا ارتديتها، وفي المرة القادمة إذا أطليت عليكم فيديو فسأكتب للكبار فقط، وحتى مقالي هذا كان يجب إبعاد الأطفال عنكم وأنتم تقرؤون لأعمى حماكم الله مما ابتلانا به.
المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر عن رأي المركز بضرورة