قارئ المقال
|
“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي/
الوقت: الواحدة بعد منتصف الليل، المكان: عمارة سكنية في صنعاء بها عدة شقق وتسكنها عدة عائلات من محافظات مختلفة، الحادث: صوت طفل يبكي بصوت مرتفع منذ حوالي ساعة، بكاء الطفل يرتفع ويتحول صراخاً شديداً مع جلبة في إحدى الشقق.
ما الذي يحدث؟!، لقد اعتاد سكان العمارة على الهدوء فمعظمهم موظفين في أعمال مختلفة ويعملون طوال النهار ما يعني أن العمارة تكون في الليل هادئة، كما أن المستأجرين هم أنفسهم ولا يوجد مستأجر جديد، ثم لماذا يصرخ ذلك الطفل بهذا الشكل؟! هل ثمة أمر غير عادي يحدث في إحدى الشقق؟!.
ومع اشتداد صراخ الطفل يتنادى المستأجرون في العمارة للخروج والتوجه ناحية الشقة مصدر الصوت، يطرق أحدهم الباب ليخرج إليهم رجلاً من الشقة وقد احمرت وجنتيه خجلاً ويقدم لهم الاعتذار بشدة عما يحدث طالباً منهم المسامحة وتفهم الوضع.
يهمس أحد الجيران: “أي وضع وما الذي يمكن أن يحدث حتى يصرخ طفل بكل هذا الوجع؟!”
في الداخل يتصل عبد الكريم طاهر بأحد أقاربه في محافظة تعز جنوب غربي اليمن: “مرحباً لقد وصلنا صنعاء بعد العصر تماماً ومعنا أحمد، لم نتجه لبيت أقاربنا لأخذ قسط من الراحة فالوضع كان يبدو خطيراً ولا يحتمل لذلك نزلنا فوراً بأول عيادة رأيناها، ولحسن الحظ فالطبيب هنا واحد من أمهر الأطباء في الأذن والحنجرة بشهادة الكثير رغم أننا لم نعرفه من قبل، المهم الطبيب شخص حالة أحمد وقال لنا: “إن لدى أحمد تجمع لسوائل وقيح في الأذن وأن التسوس يأكل الأعصاب وقد يصل إلى الدماغ، وإن أحمد بحاجة لعملية طارئة ومستعجلة أو قد يتعرض للوفاة إذا ما وصل التسوس للدماغ”، هذا ما قاله الطبيب لكن قيمة العملية قرابة نصف مليون ولا يوجد لدينا هذا المبلغ فعدنا إلى بيت أقاربنا ريثما نتمكن من جمع المبلغ أو نقترضه، ولكن أحمد يتألم بشدة ويصرخ حتى أنه من شدة الصراخ تجمع الجيران في العمارة وهم الآن في الباب يسألون عن السبب”
وضاعت الابتسامة رغم كرم الجيران.
مضت ثمانية وأربعين ساعة وعبد الكريم في سباق مع الزمن لإنقاذ حياة شقيقه أحمد، الجزء الأكبر من المبلغ تكفل به الجيران واستطاع عبد الكريم مع أسرته جمع باقي المبلغ في اليوم الثالث ليطير على جناح السرعة إلى المستشفى، وهناك خضع أحمد لعملية جراحية معقدة ولكن للأسف تم استئصال الأذن الوسطى والعصب السابع “والعصب السابع هو المسؤول عن تعبيرات الوجه وثلثي حاسة التذوق”، لذلك فأحمد لم يعد قادر على إغماض عينيه تماماً عند النوم وحتى الابتسامة وغيرها من التعبيرات لم يعد يستطيعها أحمد.
وطلب الطبيب من أسرة أحمد العودة به بعد ثلاثة أشهر لإجراء عملية أخرى ضرورية للحيلولة دون وصول التسوس إلى الدماغ وتهديد حياته وهو ما تم بالفعل، وبعد العملية الثانية فقد أحمد القدرة على السمع كلياً.
حينما يغدو الموت أُمنية.
كان يبلغ أحمد طاهر ثلاثة عشر عاماً ويدرس في الصف الثامن الأساسي عندما تعرضت قلعة القاهرة في محافظة تعز لقصف جوي صباح يوم الاثنين الموافق 11 مايو أيار 2015 وبسبب صوت القصف العنيف تضررت أذن أحمد وأصبح يشكو منها بشدة، وحينما ذهب أحمد رفقة شقيقه عبد الكريم للمستشفى اكتفى الطبيب العام بصرف مضادات حيوية وبعض الأدوية، لكن ألم الأذن عاد بعد أشهر قليلة وتزايد الألم حتى أن أقوى المهدئات لم تعد تجدي نفعاً.
عاش أحمد أياماً وأسابيع من الألم الشديد حتى فارق عينيه النوم وذبل جسمه، وبسبب شدة المعاناة والوجع كاد أحمد أن ينهي حياته أكثر من مرة لولا أن حالة عناية الله وتدخل الأسرة في الوقت المناسب.
بصيص أمل وحلم لم يموت.
سافر أحمد بدعم من فاعلة خير إلى الهند لإجراء عملية جراحية وزراعة قوقعة في إحدى الأذنين واستعاد 5% فقط من السمع فيها، صحيح أنها نسبة بسيطة ولا تكاد تُذكر لكن أحمد عاد وسمع العالم من جديد وتعجز الكلمات عن وصف سعادته، وكما قال لنا أخوه عبد الكريم: “كاد أحمد يطير فرحاً، لقد عادت أحلامه لتزهر من جديد، عاد أحمد يحلم بالعودة للمدرسة والاختلاط بالناس بعد حوالي سنتين من العزلة والحالة النفسية غير الجيدة”
وبالفعل ورغم الصعوبات الكثيرة استطاع أحمد بفضل إصراره ووقوف أسرته إلى جانبه أن يكمل الدراسة والتخرج من الثانوية العامة.
ورغم إصرار أحمد ووعي أسرته التي وقفت معه خطوة خطوة ولا سيما شقيقه عبد الكريم الذي يحمل مؤهل مساعد طبيب ويدرس حالياً تخصص أطراف صناعية رغم كل ذلك إلا أن عبد الكريم يشكو من غياب المؤسسات الإنسانية وفي مقدمتها مؤسسات ذوي الإعاقة عن معاقي الحرب من المدنيين، ويقول أن مؤسسات ذوي الإعاقة لم تقدم لأخيه أحمد أي مساعدة من أي نوع حتى المساعدة والدعم النفسي أو التدريب والتأهيل الذي هو بأمس الحاجة إليه.
يقول عبد الكريم عن أخيه: “إن أحمد يعاني بشدة بسبب أن الإعاقة جديدة عليه ولم يتعود عليها منذ الولادة، وأحمد كان ولا يزال شخصية اجتماعية ويحب لعبة كرة القدم، كما أنه شغوف بالتعليم ولكنه واجه صعوبات كثيرة في حياته التعليمية بسبب عدم انتشار لغة الإشارة وصعوبة التفاهم مع المعلمين وخصوصاً النساء حيث أن أحمد يعتمد كثيراً على لغة الشفاه ولا يستطيع قراءة شفاة المعلمات أو المتخصصات الملثمات مثلاً، حتى أنه بعد إكمال الثانوية العامة ترك أحد الأعمال بسبب أنه لم يتمكن من التفاهم مع إحدى الموظفات”
وكثيرة هي صور المعاناة التي حدثنا عنها عبد الكريم وأحمد ذاته لكنها لم تمنعه من الاستمرار والحلم بغد أفضل، وهو الآن يدرس في المستوى الثاني في المعهد التقني تخصص تمديدات كهربائية، ويأمل أن يتمكن من كسب حرفة يستطيع أن يعتمد من خلالها على نفسه، وكذلك يأمل بأن يتمكن من السفر لزراعة قوقعة في الأذن الأخرى.
وهكذا هي قصص المدنيين ضحايا بلا بواكي وأنين بلا صدى ومؤسسات تخذلهم وأطراف حرب لم تأنبهم ضمائرهم لينظروا في ملف معاقي الحرب المدنيين كما يجب وبما يرتقي لحجم المأساة والوجع.
“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”