قارئ المقال
|
“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
الذهاب إلى المدرسة صباحاً والعودة لتناول وجبة الغداء عند الظهيرة ثم الذهاب إلى الوادي لرعي الأغنام حتى المغرب هو النشاط المعتاد لكثير من الأطفال هنا في عزلة ( الإغمور ) في الحيمة الخارجية إحدى مديريات محافظة صنعاء، وكذلك في غيرها من الضواحي والبوادي اليمنية.
وفي ذات يوم يعود أصيل ذا العشر السنوات من الرعي لينادي أخاه الأصغر محمد لكي يتولى إدخال الأغنام إلى حضائرها، بينما يتحرك أصيل بسرعة خاطفة إلى سطح المنزل وليته لم يتحرك، فلو توقف وتحدث مع أهله قليلاً لربما اختلف المشهد ولما فقد بصره ولما قُتِل أخوه محمد، لكنها شقاوة وبراءة الأطفال.
ما علاقة صعود أصيل إلى سطح المنزل بمقتل أخيه؟، وما علاقة صاحب الآيسكريم بالقصة؟
تعالوا لنعرف الحكاية سوياً منذ البداية:
تبدأ القصة قبل الحادثة بستة أشهر وتحديداً بداية العام 2018 حينما كان أصيل يرعى الأغنام بجوار أحد المعسكرات في المنطقة، وهناك حصل على لعبة هرمية الشكل بطول ذراع اليد تقريباً وآثر أن يختص بها نفسه دوناً عن أخيه وغيره من الأطفال.
ينتهي العام الدراسي منتصف شهر مايو أيار قبل شهر رمضان المبارك وينجح أصيل من الصف الثالث إلى الصف الرابع الأساسي بجدارة.
كباقي الأطفال يحب أصيل الحلوى ولكن ليس أكثر من الآيسكريم الذي ما أن يرى صاحب الآيسكريم ذلك البائع المتجول حتى يسرع إليه إما بالنقود أو ببعض الخردة من النحاس ليبادله بها آيسكريم، وهذا ما وطد العلاقة به إذ أصبح أصيل زبون دائم.
ومع دخول شهر رمضان المبارك ينقطع بائع الآيسكريم المتجول عن القرية لأنه يأتي في النهار ويعود في الليل والناس في النهار صائمون بطبيعة الحال.
أما الطفل أصيل حسن شرع، فيرافق أصدقائه الأطفال من بعد الظهر وحتى قبل المغرب في رحلة الرعي المعتادة وما أن يسمعوا صوت القرآن الكريم يرتفع من مكبرات المساجد إيذاناً بقرب أذان المغرب وموعد الإفطار حتى يعودون إلى منازلهم، وبعد وجبتي الإفطار والعشاء وأداء الصلوات تبدأ ليالي رمضان الجميلة ما بين سهر ولعب الأطفال، وكل يوم يتفقد أصيل لعبته المدللة التي أحتفظ بها في سطح المنزل.
وبينما تمر أيام شهر رمضان سريعاً يلتقط الأطفال ما بقي لهم من متعة الإجازة، ويستعدون لاستقبال عيد الفطر المبارك بشراء الحلوى والثياب الجديدة، إلا أن أصيل وشقيقه محمد وباقي أطفال العائلة يستعدون لأمر آخر وهم في غاية السعادة حيث اعتادت العائلة أن تجتمع في الأعياد بمنزل الجد وأصيل ومحمد والأطفال الآخرون ينتظرون أن ينضم إليهم رفاقهم الأطفال من أبناء عمهم الذين سيأتون من صنعاء ليقضوا إجازة العيد في القرية وفي بيت الجد بالتأكيد.
بشار ذو التسع السنوات لا تكاد تحمله قدماه ويكاد يطير فرحاً باقتراب موعد العيد الذي سيقضيه في القرية مع أبناء عمه حيث سافر ومعه أطفال آخرون وأفراد من الأسرة على متن سيارة إلى القرية في آخر يوم من رمضان إلا أنهم تفاجأوا في المساء بأن رؤية الهلال لم تتضح ما يعني أن الشهر سيكون ثلاثين يوماً وليس تسعة وعشرين يوماً وهذا ما أعلنته الجهات المعنية في البلاد.
في اليوم التالي وقد أوشكت الشمس على المغيب كان الأطفال الثلاثة أصيل وشقيقه محمد وابن عمهما بشار يملئون البيت صخباً وضجيجاً، ذهاباً وإياباً، غنوا كلما يحفظون من أهازيج العيد ، ولعبوا كل الألعاب الشعبية التي يعرفونها، وهنا تذكر أصيل لعبته العزيزة على قلبه التي أحتفظ بها في سطح المنزل ستة أشهر كاملة وقرر في لحظة حب أن يشارك لعبته مع أخيه وابن عمه وبدأ الأطفال يتقاذفون باللعبة التي بين يديهم حتى ملوا منها.
وخلف ديوان الجد كانت شمس الأصيل دافئة وممتعة جلس الثلاثة الأطفال على جذع شجرة مرمي على الأرض، وجلبوا اللعبة مرة أخرى وتذكر أصيل صاحب الآيسكريم الذي سيعود إلى القرية بعد العيد واقترح أن يقوموا بتفكيك اللعبة ليستخرجوا النحاس منها ويبادلوا به صاحب الآيسكريم.
بدأ الأطفال بضرب اللعبة بقوة على الأرض بغرض تفكيكها وفجأة تنفجر بهم تلك اللعبة وتصدر صوتاً كبيراً، تخرج العائلات ويهرع شباب القرية على صوت الانفجار وأصوات صراخ الأطفال، وخلف ديوان الجد يرى الجميع ثلاثة أطفال غارقون في دمائهم طفلين ممددين على الأرض والثالث ما يزال يصرخ في حين تطاير الدم إلى نافذة ديوان الجد.
يقول بشار للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة: “حينما انفجرت بنا اللعبة التي قيل لنا فيما بعد أنها قذيفة (RBG) ) تم إسعافنا على إحدى السيارات، وفي عيادة المنطقة أجريت لنا إسعافات أولية قبل أن ننتقل إلى صنعاء، لكن محمد ابن عمي توفي هناك، واستمريت أنا وأصيل حوالي شهر في مستشفى الكويت بصنعاء” يضيف بشار: “فقدت عيني اليسرى تماماً وجزء من البصر في العين اليمنى، بينما تضررت عيني أصيل وبقي لديه قليل من البصر في العينين”
أما أصيل فرغم الوجع الذي مازال بصوته رغم مرور حوالي خمسة أعوام على الحادثة فهو متفائل وقد تم تكريمه الأسبوع الماضي لتميزه في لعبة الشطرنج بمركز النور للمكفوفين، يقول أصيل: “لقد خسرت أخي بسبب ذلك الحادث وتضرر بصري في العينين ورغم أنني أرى قليلاً إلا أنني مضطر للقراءة والكتابة بطريقة برايل للمكفوفين، وأنصح الأطفال ألا يأخذوا أي لعبة أو أي شيء لا يعرفونه فقد يتسبب لهم بالكثير من الألم طوال حياتهم”
أصيل وبشار ابني العم يدرسان في الصف السابع الأساسي بمدرسة مركز النور للمكفوفين بصنعاء ويقيمان في السكن الداخلي للمركز، ويشيدان بالاهتمام الذي يلقيانه مع باقي زملائهم من حيث راحة الإقامة وتنوع الأنشطة وجودة التغذية وتعامل الكادر الإداري والإشرافي معهما للسنة الرابعة منذ التحقا بالمركز، وتجمعهما علاقة مميزة كما لو كانا توأمين حتى في ملابسهما الموحدة.
وهكذا دفعت الطفولة ولا تزال تدفع ثمناً باهظاً في الحرب، وفي حين تكثر المنظمات المدافعة عن الأطفال والطفولة ويرتفع صوتها في كل قضاياهم يكاد يختفي في الحديث عن قضايا الأطفال ذوي الإعاقة وما يتعرضون له من اعتداءات وحشية وجرائم يندى لها جبين الإنسانية والتاريخ.
أما أصيل وبشار وغيرهما ممن أعيقوا في الحرب فالحياة بالنسبة لهم لم تتوقف وهم مستمرون بالتعليم وحصد شهادات التقدير طالما خلفهم أسر واعية ومؤسسات تأخذ على أيديهم وتفتح لهم أبواب الأمل.