قارئ المقال
|
“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
هنا قصص تدمي الضمير لواحدة من أبشع جرائم القرن، هنا دموع ثكلى وأطفال لم تجف، هنا وعلى مرأى ومسمع من العالم ذُبحت الإنسانية من الوريد إلى الوريد، هنا هُدمت المنازل على رؤوس ساكنيها، ومن هنا سيترافع الضحايا الأبرياء أمام محكمة التاريخ ضد أطراف الحرب الذين يوشكون على توقيع اتفاق سلام يقولون أنه شامل مع أنه لم يتبنى جراحهم ويقول الضحايا وفي مقدمتهم ذوي الإعاقة الأكثر دفعاً للثمن أن الأقلام خانتهم وتوشك أن تكتب نهاية الحرب مستعينة بالمداد بدلاً من دموعهم وأن أهازيج السلم ستضيق بأنينهم ذرعاً.
لا تزال فصول مأساة سكان منطقة “نُقم” والمناطق المجاورة لم تكتمل بعد، فما يزال يولد أطفال معاقون ومشوهون إلى اليوم بعد مرور ثمان سنوات، ومن أبصرتهم عين الحرب تعامت عنهم بعد أن أصبحوا من ذوي الإعاقة.
قصة اليوم أخرى ومختلفة لشاب مغمور من سكان منطقة نُقم حارة السِد تحديداً “وهو أحد الأحياء الشعبية المعروفة”.
إنه الشاب – عبد الرحمن علي محسن الضالعي، من أبناء محافظة الضالع ويسكن مع أهله في العاصمة صنعاء أو قل تسكنهم صنعاء إن شئت.
في عصر يوم الأثنين الأسود في 11 مايو أيار 2015 شن الطيران قصفاً جوياً مكثفاً على مخازن الأسلحة القريبة من منازل المواطنين مستخدماً قنابل فراغية ومحرمة دولياً ما أدى إلى انفجار مخازن الأسلحة وتطاير الرؤوس والصواريخ في كل الاتجاهات، فبالإضافة للصواريخ والأسلحة المتطايرة بجنون فقد رأى المواطنون كرة لهب كبيرة ترتفع إلى سماء المنطقة كما لو كانت شمس معلقة في الهواء ولها ذيل كبير ما يشير لفظاعة القنابل المستخدمة.
أما المواطنون فقد كانوا يهرعون فزعين وهم يصرخون في الشوارع كالمجانين، خرجت النساء بملابسهن الخاصة متشبثات بأطفالهن وبصيص أمل في النجاة.
لقد كانت السماء تمطر صواريخ وقنابل والأرض تهتز من قوة الانفجارات المتتالية وكأنما قامت القيامة.
وسط كل ذلك الهول كان ثمة شباب اقتحموا الخطر وكانوا النبل والمروأة تمشيان على الأرض، حيث بدأت مجاميع شبابية تطوعية بالتشكل سريعاً للقيام بعمليات إنقاذ فدائية وبطولية عز نظيرها.
يحكي للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة القصة كاملة الشاب عبد الرحمن الضالعي، أحد الشباب المتطوعين حينها وكان يبلغ من العمر 21 عاماً، يقول: “بعد الضربة الأولى قبل الانفجار الكبير بدأت نوافذ بعض المنازل والمنازل نفسها بالتساقط وبدأ الناس يفرون من منازلهم في ذهول وكأنما فقدوا شعورهم، وازداد الأمر سوءً بعد الانفجار الكبير وحينها تعجز الكلمات عن وصف هول المشهد حتى أن رياح الصواريخ كانت تدفع الناس للتعثر ثم ينهضون ويواصلون الفرار، حينها أخذنا نساعد النساء والأطفال وكبار السن ونوصلهم بالسيارات القريبة التي تطوع أصحابها لنقل العائلات إلى أماكن بعيدة عن تساقط الصواريخ والأسلحة وانهيار المنازل”
قال لنا عبد الرحمن أنه في الأساس كان ذاهب لإنقاذ النساء والأطفال في عائلته غير أنه لم يستطع أن يرى النساء الأخريات والأطفال يبكون دون أن يقدم لهم المساعدة فاعتبر كل النساء والأطفال المذعورين عائلته وأنه يجب أن يساعد من يصادف في طريقه حتى يصل منزله على حدى قوله.
يقول عبد الرحمن أن أكثر مشهد أثر فيه هو: بعض الأمهات اللواتي رغم كلما يحصل من هلع وموت يعم المكان إلا أنهم عند تقديم المساعدة لهن رفضن النجاة إلى بعد العثور على أطفالهن والفرار بهم، يضيف عبد الرحمن: “عظمة وجلال الموقف جعلنا أيضاً نبحث معهن عن أطفالهن كواحدة من صور المساعدة”
الشاب النبيل يسقط معاقاً على الأرض
وأخيراً بعد النجاة عدة مرات من فم الموت، وإنقاذ العديد من العوائل وتأمين وإغلاق منازلها وصل البطل، وصل البطل عبد الرحمن إلى عائلته لإنقاذها، وبالقرب من سيارة أحد المتطوعين لنقل العوائل كان عبد الرحمن يقف للإشراف على تأمين فرار آخر فرد من أسرته وركوبه السيارة، في الأثناء يسقط أمامه جسم متفجر ويدفعه الهواء عدة أمتار وسط صراخ نساء وأطفال العائلة، ليست المرة الأولى فقد سقط اليوم عبد الرحمن مرات كثيرة ونجا لذلك كان يحاول النهوض، إلا أنه هذه المرة كان ينهض ويتعثر كثيراً ويقول بصوت مرتفع: “لا تقلقوا سأنهض بس يبدوا أنني تعبت”، تنظر له أخته وهو يحاول النهوض والمشي فتصرخ رافعة يدها أمام وجهها: “يا الله، يا عبد الرحمن لم يعد لديك رجل”.
يقول عبد الرحمن: “عندما نظرت وجدت فعلاً أن ساقي قد بترت تماماً وحينها سقطت على الأرض وأدركت أني سأصير شخص من ذوي الإعاقة”
بسقوط البطل خُذل وسقطت قّيم بعضهم.
لم تشفع لعبد الرحمن بطولته ونفسه المعطاءة من المعاملة السيئة في المستشفى وعدم مبادرة الأطباء لإيقاف النزيف لساعات ما جعله يربط ساقه ببعض ملابسه كما قال، ثم إن عائلته تجشمت عناء مبالغ باهظة بعد فراره من المستشفى الحكومي لمستشفى خاص دون أن يساعدهم أحد.
حدثنا عبد الرحمن بصوت منكسر والعبرة تغالبه عن اضطراره لإيقاف تعليمه بعد الصف التاسع بسبب عدم تهيئة البيئة والحالة النفسية والتنمر ونظرة الشفقة والرحمة التي كان يتلقاها من المجتمع، وشكا طويلاً عن عدم استفادته من المنظمات الإنسانية ومؤسسات ذوي الإعاقة خصوصاً لعدم معرفته بالتعامل معها وعدم معرفته بأي شيء عن عالم ذوي الإعاقة، وقال: “خلال الثمان السنوات السابقة جاءتني العديد من المنظمات والجهات وما استفدته منها فقط هو ساق صناعية ثقيلة الوزن ومتعبة وغير مناسبة حتى أنها تمزق ملابسي رغم وجود ساق بديلة خفيفة ومناسبة ولكنها باهظة ليست في متناول المواطن العادي والمنظمات تمنحها لمن لديه وساطة، ورغم الجهات الكثيرة التي صورت معي أيضاً إلا أنني عندما مرضت وتطلب الأمر الخضوع لعملية جراحية لم يقف معي أحد حتى بطاقة صندوق المعاقين التي أحملها لم أعرف ولم أتمكن من الاستفادة منها للأسف”
كيف يمكن رد الجميل.
لن نبيعكم الوهم ونقول لكم أن عبد الرحمن يتمتع بإرادة وعزيمة صلبة فعلى العكس فقد كان يتحدث كشخص فقد الأمل وتحطمت كل أحلامه، لقد تساءل عدة مرات: “كيف سأتعلم أو أتدرب وأنا معاق”!، حتى لو من سيقبل أن يوظف معاق لديه ويقتنع به” وغيرها من صور الخذلان التي عكسها في أسئلة.
وختاماً هي وقفتان لمن قرأ حتى النهاية فقضايا ذوي الإعاقة وذوي الإعاقة أنفسهم لا يهمون الكثير من أبناء مجتمعنا للأسف الشديد:
الأولى: أن عبد الرحمن شعر بانتمائه للمجتمع وساعد الجميع ودفع الثمن، وعلى المجتمع إن أراد رد الجميل أن يتبنى قضايا ذوي الإعاقة ويهتم بها ويدافع عنها كجزء منه ينتمي إليهم وينتمون إليه.
الثانية: أن على المنظمات الإنسانية ومؤسسات ذوي الإعاقة أن تولي المعاقين الجدد بما فيهم ضحايا الحرب اهتمام خاص واستثنائي بما في ذلك الدعم والتأهيل النفسي والاجتماعي، والتدريب والتأهيل المهني فضلاً عن الجانب الصحي وغيرها من الجوانب كونهم جدد على الإعاقة ولا يعرفون الأطر المؤسسية والقانونية وكيف يتفاعلون معها.
وكما كان ذوو الإعاقة الأكثر دفعاً للثمن نتيجة الحرب يجب أن يكونوا أول من يجني ثمرات السلام إن أردنا العدالة.