المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى بمناصرة حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة

شؤون البردوني الثقافية.. عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً (3-6)

صورة علوان الجيلاني
قارئ المقال

خاص : علوان الجيلاني /

في المقال السابق كان الحديث عن تجليات النقد في كتاب الراحل عبد الله البردوني “شؤون ثقافية”، واليوم مقترب أكثر لنخوض مع الأستاذ البردوني تفاصيل حقبة هامة من الصراع بين القديم والحديث، وكيف جمع البردوني بين الأصالة والمعاصرة؟

فقد جاء في الكتاب تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” يعود إلى النيل ممن يخلطون بين الابداع وبين الانتماء لتيار ما في الكتابة، ومن يعتبرون الانغماس في مناهضة القديم دليلا على الحداثة ” ومع هذا تجد الشعراء- الذين لم يشعروا ولن يشعروا – مجرد عصابات، أو (مافيا) يحاربون كل إنسان أتقن عمله، وكل شاعر أعطى الكلمة حقها من القول والفن، فهؤلاء غير خارجين من القاعدة، ففي كل موسم شعري يطفح الزبد ويرسب الماء النقي، فلا تخلو هذه المدرسة من شعراء مجيدين، لكنك لا تجد هؤلاء الذين يملكون الجودة حاقدين على المبدعين، ولا مقاومين للمجيدين، بدليل أن أبطال المعركة بين القديم والجديد في الخمسينيات، هم من الذين ما عرفوا قديماً، ولا أحسنوا جديداً. أما الشعراء الحقيقيون فانهمكوا في الابداع، معطين إياه كل جهودهم، مستفيدين من تجارب كل المدارس، ومن مأثورات كل قديم، ومن بديعات كل حديث بلا تحيز وبل كراهية لا تحسنها إلا الضرائر”.

وهو يدعم رأيه بمعاينات عميقة مؤزّرة بمقارنات نصية ذكية، يستعرض فيها أثر شوقي في الشابي وبشارة الخوري، وأثره في السياب أيضاً، كما يقرأ خروج واقعية نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وإبراهيم طوقان وبدوي الجبل من خريف الرومانتيكية التي لفظت أنفاسها في نهاية الأربعينيات، ومن تجليات الرمزية التي كان يجترحها في نفس الوقت شعراء مثل صلاح لبكي وصلاح الأسير وسعيد عقل ونزار قباني. ومن هذ المزيج جاءت –كما يقول – أبرز تجارب نهاية الستينيات؛ مثل تجربة أمل دنقل التي كانت أكثر التجارب قوة في السبعينيات ومنها امتدت تجارب مثل تجربتي محمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة في الثمانينيات.

 لكنه يرى أن التجارب المميزة التي قدمها أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة لم تمنع سيطرة الغثاثة التي امتدت في مصر خاصة من منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات حين ظهرت مجموعة أسماء رآها مغايرة ” ولم تسفِر المدرسة الجديدة عن وجهها الحقيقي إلا من 1995م إلى الآن -، وذلك بفضل ثلاثة من الشعراء (محمد يوسف، نهى السباعي، سناء صالح). وتبدَّت عناوين مجموعات الثلاثة موحية بالدلالة، لأن المدرسة قد أينعت ودخلت موسم النضج، كما نبهت العناوين ودل المحتوى، فجاءت عناوين محمد يوسف هكذا (اليوم الخارج عن الزمن، الليلة القصيرة بلا مصابيح)، وآخر مجموعة صدرت حينها بعنوان (شجرة الرؤيا) وهي أنضج مجموعاته، بل ومجموعات سربه الشعري.. إلا أن (نهى السباعي) كانت تبدو هازلة بما تقوله ويقوله الآخرون، إذ حملت مجموعتها الأخيرة هذا العنوان (نقرة على جبين الصخرة)، أما (سناء صالح) فسمت مجموعتها الوحيدة (وادٍ بلا ضفاف)”.

الغريب أني لم أسمع قط بهذه الأسماء، وقد استغربت كيف لم تمر عليّ رغم قوة متابعتي، ولأن الأسماء تبدو مصرية فقد سألت بعض الأصدقاء من الكتاب المصريين عنها لكنهم نفوا أي معرفة بها.

وقد كان البردوني ذكياً وهو يَلْمَحُ اختلاف التسعينين، وانقطاع تجاربهم إلى حد كبير عن تجارب سابقيهم، لكنه كان يتعامل مع ذلك الاختلاف بقسوة في أكثر الأوقات، فتحت عنوان “استقراء من بعيد”، وهي مادة انكتبت كرجع صدى لمثاقفات بثتها إذاعات مصر ولبنان حول الاحتفال بحملة نابليون وحول الحداثة، يتتبع الآراء التي تحاورت في إحدى الندوات حول التسعينين حيث دارت المقارنات بينهم وبين سابقيهم، لكن البردوني اعتبر في تعقيبه على الندوة التسعينين جيلاً بلا أصول تقوّمه وبلا نقّاد يتعهدونه، لأن أدباء التسعينيات يرون أنفسهم فوق النقد، لذلك فهو يتوقع أن يخلف التسعينيون جيلا آخر بلا أرومة.

ورغم أن الندوة التي كان البردوني يعلق عليها تتحدث عن تجربة التسعينين اللبنانيين، إلا إنه كان بتعقيبه يضرب الجميع، وكان كلامه يستهدف بعضاً من أشهر سمات جيل التسعينيات في البلاد العربية كلها، أعنى: موت المعنى، وسقوط الأيديولوجيا، وتلاشي المرجعيات الكبرى، والضجيج الواسع حول الحداثة وضرورة الانقطاع عن القديم.

وكانت قسوته أكثر وضوحاً وهو يختم تعقيبه المشار إليه بقوله ” إنهم يكتبون باللغة ونحن نعرف دلالتها وتشكلها وكيفية سبكها، ولغتهم لا تدل على سبك، ولا ترمي إلى دلالة معينة”، مضيفاً ” فقد فاتهم الكثير من التعليم، والهتهم المباراة على الحداثة عن معرفة الاجادة والأصالة.

ويتكرر توقفه عند تنافس دمشق وبيروت على الاحتفال بذكرى إيليا أبو ماضي سنة 1958م، وهو بقدر ما يثني على ذلك التنافس كونه بادرة جمالية تتوجه إلى مستحق للاحتفاء بكل المقاييس، إلا أنه هاجم بشدة ذوق الكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة الذي صعد إلى منصة تكريم زميله الراحل وبدلاً من سرد مآثره الجليلة إبداعاً وإنساناً، راح يسرد معايبه ومثالبه ونقائصه، وإذا كان جورج صيدح المسؤول عن تنظيم حفل تأبين أبو ماضي قد انتقد سماجة ما فعله نعيمة في ذلك الموقف لأن لكل مقام مقال، فإن البردوني ذهب إلى أبعد من ذلك فلمح فيما فعله نعيمة نوعاً من القصديّة تنم عن سوء طوية، فقد سبق له أن فعل ذلك مع جبران خليل جبران أهم نجوم ذلك الجيل من المهجريين، واستطرد البردوني ” لقد سبق أن شكَّ بعض القراء الجديين أنه كان يتعمد الإساءة إلى جبران في كتابه عنه، بضحوة الخمسينيات، حتى توالت الفصول والكتب في الرد على نعيمة.. ذلك لأن جبران لاح لقرائه ملكاً سماوياً يمشي على الأرض، لأنه كان يرقى إلى مثالية المثالية، وبالأخص في كتابه (النبي) و(حديقة النبي)، وفي قصيدته (المواكب). وما وجده القارئ في كتاب نعيمة (حياة جبران) إلا كثر نزوات.. فقد أوضح خديعته للسيدة (ماري هاسكيل) التي أحبته وأنفقت على تعليمه في باريس، وهو يتقلَّب في نعيم عطاياها ويقضي الليالي مع غيرها ممن تملك جسداً يفوق جسد (ماري)، وإن كانت لا تحمل روحها كما كان يتمنى. كان يخادعها جبران بأنه يجلُّها عن الفراش لأنها أعظم من أن تتمرغ في الطين.

ورأى نعيمة في هذا خديعة، وما حدثت غير مرتين، وهذه انزلاقاتٌ لا تمرّغٌ في الطينية والخدائع الدنيَّة، لأنه روحاني في كل ما كتب.. كما في قصة (خليل الكافر) إحدى قصص (الأجنحة المتمردة)”.

وفي سياق ملاحظاته على كتاب شوقي ضيف “عالمية الإسلام” يستطرد إلى مناقشة أسلوب شوقي ضيف في سائر مؤلفاته عن تاريخ الأدب العربي مؤكداً أن شوقي ضيف ” تفرد بدراسة تأثير الأدب بعضه في بعض، بطريقة الماحية، فلم يقف محللاً إلا في الأجزاء الخاصة بشعر العصور العباسية التي امتزج فيها الشعر بالغناء، والغناء بالشعر”. ويأخذ على شوقي ضيف أنه ” ردَّ سبب كثرة البحور القصيرة في الشعر العباسي إلى انتشار الغناء والفنانين، مع أن تلك المجزوءات –كما يقول البردوني – ظهرت بمقدار من العصر الجاهلي.. حتى في الموضوعات التي تستدعي طول البحر كالرثاء، فقد رثت “أم السليك” وحيدها على هذا الضرب:

طاف يبغي نجوةً

من هلاكٍ فهَلَكْ

ليت شعري ضلَّةً

 أي شيء قتلَكْ؟”

وهنا يبدو لي أنه قد فات البردوني أن علة مجيء قول أم السليك على بحر مجزوء ، هو كون شعرها كان بكاءً على ابنها، بمعنى أنه كان غناءً على طريقة المُعْزَى المعروف حتى اليوم في تهامة، وهو شعر تندب به النساء الراحلين من أهلهن، يقدمنه في سياق بكاء مغنى مؤزر بلوازم صوتية، ولا يكون إلا في بحور قصيرة. وهذا يوافق ما ذهب إليه شوقي ضيف من رد سبب كثرة البحور القصيرة في العصر العباسي إلى انتشار الغناء.

في المقال القادم نتحدث معكم عن شغفه بالإذاعة بعنوان:

“الإذاعة في حياة البردوني كمستمع”

يمكنكم قراءة الجزء الثاني من المقال ( شؤون البردوني الثقافية.. منهج النقد ونماذج منه )