قارئ المقال
|
“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
كثيرون من يتحدثون عن الطموح والإرادة.. هناك في الأدنى عند ازدحام باعة الأوهام والحلول المعلبة، هناك عند استهلاك العبارات التحفيزية المملة والمكررة والتي لا تُحدث فارقاً يُذكر.
وقليلون جداً هم الذين في القمة.. حيث لا تواكل ولا تواني، حيث سهر الليالي والتفكير في الحلول لا التوقف عند المشكلات.
قصة اليوم فريدة ومختلفة جداً وتستحق أن تروى، وقد كنت شاهداً على فصلها الأهم.
لقد كنت قبل عامين في مهمة تدريبية رفقة زوجتي لمعلمين ومعلمات على طريقة برايل للمكفوفين في محافظة شبوة جنوب البلاد، إذ أن جمعية المكفوفين هناك والتي تأسست منذ سنوات قليلة كانت تخطط لافتتاح أول مدرسة للمكفوفين في المحافظة، حيث أن ذوي الإعاقة عموماً والمكفوفين خصوصاً أقل حظاً في تلقي مختلف الخدمات أسوة بغيرهم في باقي المحافظات.
كان عدد المتدربين قرابة العشرة أو يزيدون، لكن واحداً منهم كان لافتاً للانتباه بشكل واضح اسمه “حسين محمد الخشعي” قدم نفسه على أنه خريج ثانوية وفقد بصره قبل عامين، وبنبرة صوت لا تخطؤها الأذن كان فرحاً وهو يقول: “أخيراً سأتعلم طريقة برايل وأستطيع القراءة والكتابة مرة أخرى، هذا أمر جميل سأقرأ مرة أخرى ولو بطريقة مختلفة”
خلال الثلاثة الأيام الأولى حفظ حسين جميع رموز طريقة برايل باتقان، وفي اليوم الرابع بدأت معه بشكل خاص تعليم مبادئ الكتابة على اللوح والقلم المسماري.
في بداية الأسبوع التالي وضع بين يدي ورقة ضمنها قطعة تعبيرية بسيطة يتحدث فيها عن سعادته بتعلم طريقة برايل للمكفوفين وشكره للقائمين على الدورة –احتوت القطعة على بعض الأخطاء نعم- لكن الوقت القياسي الذي تعلم فيه القراءة والكتابة بطريقة برايل كان مدهشاً.
وبنهاية الأسبوع الثاني قرأ الشاب حسين أول صفحة من القرآن الكريم بطريقة برايل، وكانت ابتسامته واضحة لو وُزعت على أشقياء الأرض لوسعتهم، حينها غالبت دمعة كادت تخونني أمام المتدربين.
ومن وقت لآخر كان المتدربون يعبرون عن إعجابهم بطموح حسين وذكائه وكيف أنه لم يستسلم لإعاقته الحديثة.
حسين يفاجئنا بقصة غير متوقعة.
وفي ذات استراحة قال لنا حسين: “المكفوفون في هذه المحافظة محرومون بشكل كبير ومن يتعلم منهم أو يحقق إنجاز فهو بدافع وجهد شخصي ويعلم الله كم من المكفوفين في منازلهم دون تعليم ودون رعاية”، وأضاف قائلاً: “في منطقتنا حصل أن انفجر لغم بأحد كبار السن وذهب ثلاثة من الشباب لمحاولة إنقاذه، وقبل أن يصلوا إليه بأمتار قليلة انفجر بهم لغم آخر واشتعلت سيارتهم وتوفي اثنان منهم ونجا الثالث، لكنه نجا بعد أن قلعت عينه اليمنى وتلف العصب البصري في العين اليسرى فأصبح كفيفاً كلياً، ظل ذلك الشاب في المستشفى أكثر من عشرة أيام، وبعد خروجه بحث كثيراً عن العلاج دون فائدة فالعصب البصري قد تمزق تماماً”
سألنا حسين: وكيف كان شعوره بعد أن عرف أنه قد أصبح كفيفاً للأبد؟
قال حسين: “لقد دخل في حالة نفسية يرثى لها، ووجد أن الظلام يلفه من كل ناحية فلن يتمكن من مواصلة تعليمه، ولن يستطيع العمل، كما أنه لم يعد قادر على استخدام الهاتف الذي كان شغوفاً به وكان مهتم بقراءة الكتب بشكل كبير، لكن حدث تغير كبير في حياته عندما عرف لأول مرة أن المكفوفين قادرون على استخدام الهاتف والكمبيوتر من خلال برامج ناطقة، واشترى تلفوناً وزوده بالبرنامج الناطق وبدأ يتواصل مع الناس وأدرك أن هناك مكفوفين كثيرين غيره، والأهم أنه عاد لقراءة الكتب بنهم كبير بعد أن كان يحمل تسجيلات صوتية مملة لبعض الكتب”
باهتمام سألنا حسين: وأين هو الآن؟
قال حسين: “بعد تحميل البرنامج الناطق لهاتفه وكسر عالم العزلة تواصل بزملاء مكفوفين له وعرف أن هناك دورة ستقام لتعليم طريقة برايل في شبوة فلم تحمله قدماه فرحاً وعلى جناح السرعة جاء إلى هنا وهو من يحدثكم الآن”
حسين يجيب عن الأسئلة الصعبة.
صمتٌ وذهول تملك الجميع، ثم بدأت الأسئلة:
ما الذي كنت تعرف عن المكفوفين من قبل؟
“معلومات قليلة هنا وهناك وبعض الفيديوهات”
لحظة الانفجار كيف كان شعورك؟
“لقد كنت في فم الموت ومات اثنان إلى جانبي، وكان الظلام هو سيد الموقف”
ما الموقف الذي لا تنساه أثناء الحادث أو بعده؟
“عندما انفجر بنا اللغم كنا في السيارة ثلاثة أشخاص وعندما جاء المواطنون لإسعافنا كنت لا أرى شيء وبسبب وعورة الطريق وسرعة السيارة ولأني لا أرى أي شيء فقد كنت متمسك بجثة صديقي الذي كان ميتاً إلى جواري، لقد كان مشهداً قاسياً للغاية”
ما أصعب موقف مر بك؟
“لقد بحث كثيراً عن العلاج وانتقلت من طبيب لآخر ولم أكن أعلم بماهية العصب البصري وأنه إذا تلف لا يمكن العلاج، لذلك كلما يأست من طبيب انتقلت لآخر وكان لدي بصيص أمل رغم أن هناك صوت بداخلي يقول لي “إنك لن ترى أبداً” ومع ذلك استمريت في المحاولة إلى أن وصلت إلى طبيب مصري الجنسية فقال لي بصراحة: “أنت فقدت عصبك البصري ولن ترى أبداً وعليك أن تتوقف عن استنزاف أموالك بلا فائدة وعليك أن تتقبل واقعك بشجاعة” وما كان كلام الطبيب إلا صداً لصوت في أعماقي سمعته بأذني فشعرت أن الحياة أغلقت أبوابها في وجهي تماماً، لكنها أشهر وقررت أن أعيش حياتي الجديدة وأعمل على أن تكون سعيدة ومليئة بالصبر والرضى وكنت أستذكر حديث النبي محمد (ص): {من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط}”.
رسائل واضحة ودقيقة.
وهكذا فقد استطاع حسين أن يتعلم طريقة برايل وهو الآن يستعملها بمهارة، وقرر أن يواصل مشواره التعليمي الذي كان قد توقف عنه عام 2011 بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، فسجل في إحدى الجامعات تخصص علوم قرآن وامتحانات نهاية العام الأول على الأبواب.
ويوصي حسين زملائه ذوي الإعاقة بعبارات دقيقة وواضحة: “لا تستسلموا للظروف وإن بدت صعبة واعملوا وفق المتاح أفضل من اليأس والتوقف، اقتنصوا الفرص وأهلوا أنفسكم ولا تضيعوا أوقاتكم، ومالم تبحثوا عن أنفسكم فلن يبحث عنكم أحد”
وللدولة والمنظمات يقول حسين: “إن ذوي الإعاقة تعرضوا لتهميش كبير ويجب أن يحظوا بالرعاية والتأهيل، وعلى المنظمات أن تجعل ذوي الإعاقة ضمن اهتماماتها ولا تتجاهلهم، كما أن التعويض وجبر الضرر حق لكل مواطن تعرض للإعاقة بسبب الحرب الدائرة في البلاد”