“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
رندا، امرأة في بداية عقدها الثالث تعمل معلمة في إحدى المدارس بالمنطقة، وتصطحب طفليها معها كل صباح.
اعتادت رندا أن تمر مع طفليها من جوار كشك لبيع ألعاب وملابس الأطفال وبعض أنواع الحلوى، يقع الكشك أمام مستشفى الأطفال في حي يعرفه أبناء محافظة تعز غربي اليمن بالنقطة الرابعة.
ما لفت نظر رندا هي تلك المرأة التي تعمل في الكشك إذ تراها صباح كل يوم وحتى عند العودة من دوامها تمر من جوار الكشك وتلك المرأة لا تزال مكانها، وغالباً ما تراها تسند ظهرها لكشكها البسيط بين الشمس والرياح.
وفي ذات يوم قررت رندا أن تنعطف إلى ذلك الكشك لتشتري لطفليها بعض الحلوى والألعاب، ولترى صاحبة الكشك عن قرب.
ما إن اقتربت رندا من المرأة حتى رأت في عينيها هموم العالم بأسره، ورأت في تقاسيم وجهها تفاصيل وجع وقصة إنسانة يبدو أن الحياة قد أتعبتها ونالت منها كثيراً.
حاولت رندا ملاطفة المرأة وسألتها عن اسمها وعمرها؟ فأجابتها: “اسمي دليلة، وعمري ثلاثون عام تقريباً”.
ابتسمت رندا، وقالت تلاطف دليلة: “ما تزالي صغيرة، وعلى فكرة أنتي جميلة جداً وقريب أن شاء الله أشوفك عروسة”.
هنا انتفضت دليلة من مكانها وتغير وجهها وهي تردد: “لا، لا أريد أن أكون عروسة مرة أخرى، يكفي ما حصل، يكفي، يكفي أنا تعبت”.
وبينما رندا في دهشتها يبدو أن دليلة شعرت بأنها انفعلت أكثر مما يجب فهدأت قليلاً، لكنها استمرت بوضع كفيها على وجهها وتبكي بحرقة ومرارة.
أخذت رندا تهدئ دليلة وتطبطب على ظهرها، وتقدمت إليها لتحتضنها طالبة منها أن تقبل اعتذارها وأنها لم تقصد أن تؤذي مشاعرها.
وبعد أن هدأت دليلة أمسكت بيدي رندا ونظرت في عينيها نظرة اعتذار خجولة، ثم نظرت للطفلين نظرة طويلة وفاحصة وقالت: “الله كم تمنيت أن أكون أماً وأن يكون لي أطفال، لكن زوجي تركني يوم زفافي لسبب لا ذنب لي فيه، بل أنه طلقني عبر المحكمة وتزوج بامرأة أخرى بعد أن استرجع مهري ليعطيه لها”.
رندا في ذهول: “طلقك بسبب لا ذنب لك فيه! واسترجع المهر!!! وعبر المحكمة أيضاً؟!!!، ما هذا! وبأي قانون! ولماذا!”
تسحب دليلة نفساً طويلاً ثم تطلق تنهيدة من أعماق صدرها: “الحرب الحرب، بسبب الحرب يا رندا”، ثم ترفع دليلة رأسها لترى باص (حافلة النقل) قادم من الخط الرئيسي فتتوقف عن الحديث لتستأذن رندا وتغلق الكشك وتحمل بضاعتها على ظهرها حتى تدرك الباص قبل أن يفوتها.
تعود رندا بصحبة طفليها لمنزلها وحديث المرأة لا يفارق تفكيرها، – ما السبب الذي يدفع رجل للتخلي عن عروسه يوم زفافه؟!، – ما علاقة الحرب بمثل هكذا قضية؟!، – ما الذي تخفيه دليلة وراء قصتها الغريبة؟!.
ما علاقة الحرب بعرس دليلة ليفشل؟
تبدأ القصة في قرية الشقب التابعة لمديرية صبر الموادم جنوب شرقي محافظة تعز في العام 2018م.
كانت تعيش دليلة ذات الخمسة والعشرين عاماً مع والدها ووالدتها ميسورة الحال، فبالإضافة للأراضي الزراعية التي تمتلكها أسرتها كانت تزاول العمل التجاري في المستلزمات النسائية.
وفي منتصف العام 2018 كانت قرية الشقب تشهد أشد أيام الحرب ضراوة، حيث كانت القرية منطقة تماس بين عدة أطراف متحاربة.
وعلى وقع الرصاص وتحت أزيز الطائرات وهدير المدافع تحاصر سكان القرية فلم يستطيعوا الخروج منها أو الدخول إليها، واستمرت المعارك والمشهد كما هو لم يتغير.
هنا بدأ سكان القرية بممارسة نشاطات الحياة في وجه الموت، ومن تلك الأنشطة استمرار الأعراس وحفلات الزواج.
وكان موعد عرس دليلة في تاريخ ذهبي حرص شريكها على اختياره بعناية “7 / 7 / 2018”.
قبل هذا التاريخ بدأت كما جرت العادة مراسيم العرس بمنزل الفتاة، ولكن قبل الموعد بيوم واحد وقع ما لم يكن في الحسبان ليتغير كل شيء ولتتغير حياة دليلة إلى الأبد.
خرجت دليلة لجلب الماء من جوار منزلها، وفي ممر ضيق محيط بالمنزل داست على لغم أرضي انفجر بها وبتر قدميها في الحال، هرع من في الداخل إلى مصدر الانفجار والصراخ، وكان أول الواصلين لإنقاذ دليلة ابنتي عمها التين انفجر بهما لغم آخر على بعد أمتار قليلة قبل أن تصلان إلى دليلة لتفقدا قدميهما كذلك وتصابان بجروح أخرى.
وأثناء وجود دليلة في المستشفى، كانت أسرتها تستقبل استدعاء من المحكمة من طرف زوجها طالباً انهاء الزواج واستكمال إجراءات الطلاق ومطالباً بلا خجل باسترجاع المهر، وهو ما تم بالفعل.
ولأن المصائب لا تأتي فُرادى فقد تم تفجير منزل أسرة دليلة ومنازل مواطنين آخرين مدنيين لا علاقة لهم بالحرب من قريب أو من بعيد، وتم تهجيرهم من قريتهم ومن بين مزارعهم إلى مخيمات النزوح والتشرد.
رسائل دليلة وأحلامها تلخص المأساة.
بألم توجه دليلة رسالتها لمختلف الأطراف وتقول: “لقد دفعنا ثمنا غالياً لهذه الحرب فأوقفوها حتى لا يدفع آخرون ما دفعناه من أرواحنا وصحتنا واستقرارنا ومستقبلنا، أوقفوها فأنتم لا تعرفون ما تسبب من ضياع للحاضر ودمار للمستقبل”
وحينما سألنا في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة دليلة عن أحلامها؟، أجابتنا والعبرة تكاد تخنقها:
“أتمنى إلى أُصاب بأمراض أخرى حتى أتمكن من كسب لقمة عيشي ومساندة عائلتي التي فقدت كل شيء، كما أتمنى الحصول على سيارة للتنقل بها والتخلص من عناء المواصلات وما أواجه من رفض وتجاهل بعض السائقين لركوبي معهم بسبب إعاقتي، كما أتمنى أن أتمكن من توسيع مشروعي وأن أنتقل إلى محل فقد أُنهِكتُ في الشارع بين الشمس والريح”
وختاماً فقد سألنا دليلة –إذا ما كانت قد تلقت مساعدة لتطوير مشروعها من قبل صندوق رعاية المعاقين أو المنظمات الإنسانية العاملة في المحافظة فأكدت أنها لم تتلقَ أي مساعدة حتى الآن وأعربت عن شكواها من تجاهل المنظمات لذوي الإعاقة وخصوصاً المدنيين.
ولذلك نضع صندوق رعاية المعاقين والمنظمات الإنسانية أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والمهنية تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة عموماً والمدنيين منهم على وجه الخصوص كونهم خارج الحسابات بشكل كبير.