“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
ما جرى لضحايا الحرب في اليمن من المواطنين المدنيين غاية في الألم وقصص تدمي ضمير الإنسانية، ورغم أن خلف قصة كل ضحية وجع ودموع لم تجف بعد فإنما تعرضت له أسرة منصور سعد الضبيبي، هي فاجعة بكل المقاييس نُكِبت فيها أسرة بأكملها.
قصة أسرة منصور الضبيبي واحدة من أكثر قصص الحرب مأساوية وفداحة فهناك من تعذب حتى الموت وهناك من تعرض لإعاقة دائمة فضلاً عما عانته الأسرة من ضياع وتشرد وما تزال.
في قصتنا لهذا الأسبوع من سلسلة “ما وراء الحرب” سنقف معكم على الثمن الباهظ جداً الذي دفعه المدنيون من خلال مثال واحد لأسرة وصلت إلينا في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة حيث قابلنا الوالد وتعرفنا على إثنين من أولاده ولم نستطع بعد المقابلة السيطرة على مشاعر الحزن والألم لما تعرضت له هذه الأسرة، فماهي القصة من البداية؟
من هي الأسرة المنكوبة ولماذا؟!.
علي سعد الضبيبي، من أبناء محافظة ريمة، يسكن في منطقة صرف التي تتبع إدارياً مديرية “بني حُشيش” إحدى مديريات محافظة صنعاء شرق أمانة العاصمة.
انفصل عن زوجته بعد أن أنجب منها طفلين هما سعد الذي كان عمره ثمان سنوات، وإلهام والتي كان عمرها ست سنوات، ويقول منصور أن ما تسببت به الحرب من تبيعات اقتصادية كانت سبب في انفصالهما.
تزوج منصور من امرأة أخرى وأنجب منها طفلين آخرين هما: أميرة، خمس سنوات، وزغير، ثلاث سنوات.
وكان يملك محلاً لتزيين المركبات بالإضافة لعمله في أعمال حرة مختلفة، وكانت حالته الاقتصادية جيدة حسب قوله، حيث كان يملك قطعة من الأرض في أمانة العاصمة إذ تعتبر قطعة الأرض أصلاً ثابتاً عالي القيمة.
وفي مساء يوم الثلاثاء الموافق 2 فبراير شباط 2016 شن الطيران ثلاث غارات على كلية المجتمع في صنعاء، وخلف القصف خسائر مادية وبشرية بين المواطنين بالإضافة لتدمير ثلاثة معامل في الكلية قدرها عميد الكلية د. علي السنباني، حينها بثلاثة ملايين دولار أمريكي.
يروي لنا منصور الضبيبي قصة الأسرة وكيف تعرضت للمأساة في ذلك اليوم الكئيب يقول:
“كنت على متن السيارة مع زوجتي وابني سعد وبنتي إلهام، حيث كان الطفلين في صندوق السيارة بينما كنت أنا وزوجتي في الغمارة، وكان الوقت حينها بعد المغرب عندما مررت بمحاذاة سور كلية المجتمع قاصداً منزلي الذي يقع خلف الكلية تماماً فإذا بغارة جوية عنيفة رأينا على إثرها نوافذ البيوت تتطاير والناس يصرخون في الشارع، وكدت أفقد السيطرة على السيارة بسبب اهتزازها الشديد عقب الغارة، وتوقفت وأخذت أحمل أطفالي بسرعة وأدفعهم إلى الغمارة وأثناء ذلك شن الطيران غارة أخرى أشد عنفاً طارت بي مع أطفالي وزوجتي عدة أمتار وأُغمي علينا جميعاً”
هرع المواطنون إلى المكان لإسعاف الأسرة إلى المستشفى وقد هالهم منظر الأطفال والدماء تغطي وجوههم وتعبث الشظايا والجراح بملامحهم البريئة.
ذنب تلك الأسرة وغيرها من الأسر التي تسكن بجوار كلية المجتمع أن طرفاً اعتقد أن قيادات الطرف الآخر في الحرب مجتمعون في الكلية وهذا ما ثبت فيما بعد عدم صحته، هكذا بكل استهتار يتعامل المتحاربون مع المدنيين وكأنهم ليسوا بشراً.
المصائب لا تأتي فرادى
منذ ذلك اليوم بدأت معاناة منصور الضبيبي وأسرته ولا تزال، فالوالد أصيب بعدة جراح بالغة في الرأس والرجل اليمنى ظل شهرين يتعالج في المستشفى على إثرها.
لكن الأكثر وجعاً هي الطفلة إلهام ذات الستة أعوام التي أُصيبت بفشل كلوي وتوفيت بعد جلستين فقط لغسيل الكلى.
أما أخوها سعد والذي يكبرها بعامين فقد أصابت شظية عينه اليسرى ليفقد النظر بها تماماً، وكان تشخيص الأطباء مصيبة أخرى على سعد وأسرته حيث كان التشخيص قاصراً ولم يتم فصل الشبكية وتنظيف العين من سموم الشظايا بالشكل المطلوب – وهذا ما أثبتته التقارير الطبية من المستشفيات الهندية والمصرية التي اطلعنا عليها والد سعد.
اضطر منصور للسفر بابنه سعد إلى الهند للعلاج عام 2019 بعد أن باع المحل وقطعة الأرض التي كان يمتلكها ولم يجدِ ذلك شيءً فالعصب البصري قد تلف وفقد سعد النظر في العين اليمنى كذلك.
وبعد أشهر عقب عودتهما من الهند كانت آلام الزوجة التي بدأت من ثلاث سنوات تزيد أكثر وأكثر، وعند اشتداد الألم ذهب منصور رفقة زوجته للمستشفى ليُصعق بتشخيص الأطباء بأن الزوجة تعاني من سرطان خبيث في الثدي بسبب بعض المواد المحرمة التي ألقت بها الطائرات في قصف الكلية.
جمع منصور ما تبقى لديه من مال وما لديه من بصيص أمل لعلاج زوجته وابنه واستدان من الجيران وكذلك فعلت زوجته وقرر الذهاب إلى مصر ولكن دون جدوى فسعد لم يُبصر والزوجة لم تُشفى بل وتوفيت بعد أشهر فقط من عودتهم من مصر، ليبقى منصور ومعه ثلاثة أطفال صغار لا يعرف كيف يرعاهم أو كيف يلبي متطلباتهم.
أين يضع منصور أطفاله حينما يخرج للعمل؟ وماذا يريد؟
تغص العبرة بحلق منصور حينما يتحدث عن أطفاله وكيف أصبحوا يتامى بلا حنان ولا رعاية أم، يقول منصور: “بعد أن بعت كلما أملك وأصبحت غارماً ومديوناً للناس أقاتل حتى أتمكن من توفير لقمة العيش لأولادي الثلاثة”.
وعندما سألناه أين يترك أولاده عند خروجه للعمل؟ كانت إجابته صاعقة حيث قال لنا بأنه يترك أبنائه عند الجيران أو بعض من تربطهم به قرابة بعيدة حتى يعود.
سعد يبلغ الآن من العمر قرابة الخمسة عشر عاماً بينما تبلغ أميرة من العمر خمسة أعوام فيما يبلغ زغير من العمر ثلاثة أعوام، والابن الأكبر سعد يدرس حالياً في الصف الرابع الأساسي بمركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين بصنعاء.
لم نستطع أن نسأل منصور عن أوجاعه أكثر رأفةً به وبنا، لكننا ختمنا اللقاء بسؤال واحد:
لو قُدِر أن نوصل صوتك للمعنيين ومن بقي لديهم ذرة من ضمير – فماذا تريد أن تقول؟
أخذ منصور نفساً طويلاً وقال: “بعد أن كنت ميسوراً أصبحت غارماً ترهقني ما علي من ديون وأرجوا أن تعتبرني الجهات المختصة معسراً ولدي كلما يريدون من إثباتات وشهود، وبالنسبة لي فقد تدمرت حياتي وتحطمت أحلامي ولكني أفكر بأطفالي الصغار الذين فقدوا حنان الأم وليس لدي في المنزل من يقوم على رعايتهم، أريد أن أتمكن من الزواج ليس ترفاً ولا رفاهية ولكن لأجل الأطفال الذين لا أدري أين أضعهم عند خروجي للعمل، أريد من يعوض أطفالي بعض حنان الأم ولا ينحرموا من التعليم، سعد أصبح يافعاً ويوجعني قلبي عندما أراه مهموماً شارد الذهن”
وهكذا هي الحرب قاسية ومتوحشة لم تستثني من وحشيتها أحد، قصص من وراء الحرب استطعنا أن نصل للقليل منها والكثير نار تحت الرماد وأنين موجوعين خلف جدران التغافل والتناسي من قبل الكثيرون – فهل آن للضمائر أن تستيقظ؟.
نلقاكم الأسبوع القادم.