“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
في مديرية “الجراحي” جنوب محافظة الحديدة يعمل الشاب العشريني علي صالح الفقيه متنقلاً بين بعض الأفران لتأمين حياة كريمة له ولأسرته، لكن ما يتقاضاه لم يعد كافياً لمواجهة التزاماته خصوصاً مع ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب الحرب، لذلك بدأ يتطلع لعمل آخر ويبحث هنا وهناك.
وفيما الأفكار تلعب برأس علي يمنة ويسرة يستقبل اتصال من أحد الأصدقاء يزف إليه بشرى بفرصة عمل في إحدى المزارع في مديرية “الخوخة” المجاورة، طار علي فرحاً بالخبر وأخذ يستعد للعمل الجديد بعد إجازة عيد الأضحى الذي سيكون بعد أيام قليلة.
لم يعد بهدية.. بل عاد بنصف حضن.
بعد عيد تخللته مظاهر احتفال بسيطة وعادية ككل الأهالي في هذه المنطقة، فالحرب سلبتهم كل شيء وباتوا يقاتلوا على الضروريات وأبسط مقومات الحياة، بعد إجازة العيد ودع علي أسرته وقبل ابنه أحمد ذو الثمانية أعوام على جبينه طالباً منه أن يجتهد في دراسته ووعده بهدية جميلة نهاية العام عند تفوقه.
وفي أحد أيام شهر أغسطس آب عام 2021 نهض علي مبكراً كالعادة للعمل في المزرعة، وكان ذلك اليوم موعد ري المزرعة.
لقد قام علي ليزرع الأرض، بل قام ليزرع الحياة، ليزرع الحب، ليأكل من عرق جبينه دون أن يأخذ أو يسلب حق أحد، قام علي ليعتني بالأرض كمعظم أبناء تهامة البسطاء الذين يصدرون لهذه البلاد ما تجود به الأرض من كل الأصناف بينما يبادلهم الآخرون نكراناً وجحوداً واستغلالاً.
وأثناء ما كان علي يقلب التراب “بالكُريك” إحدى آلات الزراعة ويفتح المجال للماء ليصل إلى كافة أنحاء المزرعة لاحظ قسوة الأرض فظنها حجراً، لكنها لم تكن قسوة الأرض بل قسوة الإنسان إذ كان ما يحاول علي تحريكه لغماً مضاد للأفراد انفجر به ليطير عدة أمتار ويفقد ذراعه اليسرى على الفور.
هُرع من في المزارع المجاورة إلى المكان ليجدوا علي وقد تخضب بالدماء والشظايا في كل مكان في جسمه وهو مغمى عليه ومرمياً على الأرض، وعلى عجل قام المواطنون بإسعافه إلى إحدى مستشفيات المحافظة.
يقول علي للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة: “لقد استمريت في الغيبوبة حوالي خمسة أيام، وحينما فقت عرفت بأني فقدت يدي اليسرى فضلاً عن الجروح البليغة في أماكن كثيرة في جسمي حتى أنني ظللت أشهر لا أستطيع الحركة، كان شعوراً غاية في الألم لا أستطيع وصفه، تخيل أن تفقد طرفاً من أطرافك وأنت معيل الأسرة، استمريت عدة أشهر في المستشفى قبل أن أعود إلى البيت”.
عاد علي إلى بيته كشخص من ذوي الإعاقة، عاد وهو لا يحمل لابنه أحمد الهدية التي وعده بها بل عاد وقد قُطعت يده وسيحتضن ابنه وزوجته بيد واحدة مع تنهيدات ودموع تختبئ خلف حدقات عينه ليذرفها كلما استبدت به الوحدة والشعور بالعجز.
للاستماع لقصة علي بصوته يمكنكم الضغط هنا
أتمنى أن يحقق ابني ما كنت أحلم بتحقيقه.
لم يتقبل علي الوضع الجديد بسهولة فلم يكن يخطر على باله أنه قد يتعرض لإعاقة وبأنه لن يستطيع مزاولة الأعمال التي كان يعملها من قبل فدخل في حالة اكتئاب واعتزل الناس، يقول علي: “كرهت الخروج من المنزل، بل أغلقت على نفسي الغرفة ولا أخرج منها إلا للضرورة واستمريت على هذا الحال عام كامل، ثم أدركت أنه لا فائدة من اليأس بهذه الطريقة، كما إن أسرتي وقفت إلى جانبي بقوة وحفزتني وهذا ما أعاد لي الأمل في الحياة من جديد”
وبدعم من بعض المنظمات ذهب علي لإجراء عمليتين جراحيتين إحداهما في صنعاء والأخرى في عدن غير أنه لم يستفد منهما شيء على حد قوله.
ومنذ حوالي عام ينتظر علي كل يوم أن تتصل به إحدى المنظمات التي وعدته أو أي مؤسسة من مؤسسات ذوي الإعاقة ليحصل على طرف صناعي يستطيع من خلاله مزاولة بعض الأعمال ليعيل أسرته.
يحدثنا علي بمرارة كيف أنه كان يحلم بأن يتعلم ويصبح طبيباً يخدم المجتمع ويقول: “تعلمت القراءة والكتابة ولم أستطع أن أكمل تعليمي بسبب الظروف المادية واضطراري للعمل، والآن أتمنى بأن أحصل على مشروع خاص أستطيع العمل فيه بنفسي لأعيل أسرتي وأدعم ابني ليكمل تعليمه ويحقق ما كنت أتمنى أن أحققه”
ويوجه علي الرسالة للدولة وكل أطراف الحرب بقوله: “نحن مواطنون تعرضنا للإعاقة دون أي ذنب فكما كنا ضحية حربكم فلا تنسونا وأنتم تتفقون على الحل، لست وحدي فهناك كثيرون غيري وخصوصاً محافظة الحديدة فهي من أكثر المحافظات التي تعرض فيها المواطنون للإعاقة بسبب الحرب”
وما قاله علي هي حقيقة يعرفها الجميع، وقد لا تتصورون أننا تواصلنا في يوم واحد بثلاثة عشر حالة تعرضت للإعاقة بسبب الحرب ولكن الكثير منهم بلغ الوجع منهم أنهم لم يستطيعوا التعبير عن وجعهم حتى أن أحدهم حينما طلبنا منه أن يروي لنا شهادته على الحرب كواحد من ضحاياها اكتفى بالقول: “ما حصل قد حصل والجرح كبير والوجع كبير خلوها على الله بس” وأغلق التليفون.
وحتى علي الفقيه ضللنا كثيراً نقنعه بأن يروي لنا شهادته، وبعد جهد جهيد روى لنا قصته باقتضاب وأرسل لي في الأخير هذه الرسالة:
“أنا وثقت فيك وحكيت لك دون أن أعرفك فأنا في وجهك لا تضرني بشيء وهذه أمانة في رقبتك، حتى أن أمي ما كانت تريد أن أحكي لك قصتي لكني قد وعدتك”
فهؤلاء الضحايا الأبرياء الذين دفعوا كل ذلك الثمن الباهظ من أرواحهم وصحتهم وأحلامهم يخشون حتى أن يعبروا عن ألمهم، ألا يعتبر كل ذلك الخوف والقهر وصمة عار على جبين صانعي مأساتهم!، ألا يكفي كل ذلك لتتوقف الحرب إلى الأبد!.
لقراءة القصة باللغة الأنجليزية من خلال الرابط التالي :
The Tragic Story of Ali: A farmer who Encountered an Anti-personnel Mine