المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى بمناصرة حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة

ما وراء وراء الحرب

ما وراء وراء الحرب

كتب: إبراهيم محمد المنيفي، كاتب السلسلة ومدير التحرير في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة /

ما وراء الحرب؟

قصص وحكايات لم تُروى، روينا بعضها في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة بلسان الضحايا أنفسهم.

مآسي كثيرة وجراح لما تندمل بعد، فأن تتحول إلى شخص من ذوي الإعاقة بين ليلة وضحاها ليس بالأمر السهل خصوصاً أنك لا تعرف عن الإعاقة أي شيء من قبل.

مؤلم أن تدفع الثمن في حرب عبثية لا ناقة لك فيها ولا جمل، والأكثر إيلاماً أن تكون أول ضحايا الحرب والأكثر خسارة وآخر من تفكر أطراف الحرب في إنصافه وحمل قضيته على محمل الجد:

سلسلة “ما وراء الحرب” تناولنا فيها عشر قصص وشهادات مباشرة من أشخاص أصبحوا من ذوي الإعاقة بسبب الحرب الدائرة منذ عام 2015 بغض النظر عن سبب الإعاقة أو الطرف المتسبب بها.

بدعم من مركز توجيه المبادرات الإعلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع للمركز الدولي للصحفيين قمنا في المركز بالتواصل مع الضحايا أو مقابلتهم بشكل مباشر والاستماع إلى شهاداتهم المروعة، وتلمسنا معهم منافذ للأمل وقصص للنجاح في تجاوز ظروف ما بعد الإعاقة، وتعرفنا عن قُرب عن كيف عاشوا الصدمة الأولى بعد الإصابة وكيف تعاملوا معها وصولاً لرسائلهم التي نوصي الجميع بقراءتها باهتمام فقد قمت بسرد القصص مكتوبة باللغة العربية، وترجمها الزميل العزيز ياسر محمد إلى اللغة الإنجليزية بشكل احترافي ومتميز، كما يمكنكم الاستماع إليها بسرد مختلف ومن زاوية أخرى في بودكاست “ما وراء الحرب” للزميل محمد ناصر الشماحي، حيث رواها صوتياً بأسلوب مختلف وشاركه الأبطال في رواية القصص، ورافقنا من الإشراف العام والمتابعة رئيس المركز الأستاذ – دارس البعداني،

وكانت القصص على النحو التالي:

  1. “قبل زفافها بيوم.. لماذا ترك العريس هذه الفتاة في تعز”
  2. “كمينٌ للطفولة في محافظة إب ينتهي بمأساة،  فكيف يمكن إيقافها؟”
  3. “عبد الله حسين والبحث عن عمل بعد الإعاقة.. تحدي وجودي”
  4. “الآيسكريم أم تراجيديا الموت؟ من أفقد الطفلين البصر وقتل الثالث؟!”
  5. “الشاعر محمد الشامي.. أطفأت الحرب عينيه ولم تُطفئ مشعله”
  6. “تجاهل الأبطال خذلان وخيانة.. عبد الرحمن الضالعي نبيلٌ من زمن الحرب”
  7. “مأساة أسرة يمنية بصنعاء تهز ضمير الإنسانية.. أسرة الضبيبي والثمن الباهظ”
  8. “وفقد أحمدُ الابتسامةَ للأبد.. –فهل خطفها أصحاب الصور الجماعية؟”
  9. “لم يعد بهدية، بل عاد بنصف حضن.. علي ومأساة معاقي الحديدة”
  10. “من احتضان ميت إلى معانقة الحياة.. حسين الخشعي ومعادلة النجاح”

الحقيقة أن القصص كانت مليأة بالمفاجآت والأحداث، كما أن أبطال تلك القصص ظلوا على تواصل معنا ليخبرونا بالجديد في حياتهم سواءً على صعيد الآمال والأحلام أو على صعيد تجديد الوجع حيث أخبرنا بعضهم عن حالات إعاقات جديدة بمناطقهم حصلت أثناء العمل على السلسلة، وقالت لنا لبيبة أن والدتها تعرضت للقنص وظلت في العناية عدة أسابيع ولا ندري ما الذي جرى لها بعد ذلك.

لقد مرينا بلحظات من الوجع ونحن نستمع لبعض الشهادات ولا أستطيع وصف قسوة تلك اللحظات، لكنها مؤلمة ومفزعة وغاية في الصعوبة، صعب جداً أن يروي لك ضحية قصته ويعتقد أن بوسعك أن تقدم له شيء مادي أو أن بإمكانك أن توفر له طرف صناعي، صعب جداً أن تسمع أحدهم يبكي وهو يقول: “فقدت كل شيء ولم يعد لدي في الحياة ما أخسره لكن ما ذنب أطفالي يبقوا بلا تعليم وبلا مستقبل”، موجع جداً أن تخبرك إحداهن بالقول: “لا أستطيع النوم فديون الناس تقض مضجعي، وأحلم بلوح طاقة شمسية حتى أتمكن من الرؤية في بيتي ليلاً فأنا بغير ضوء”.

كم كان مجهد نفسياً وذهنياً ونحن نبحث عن ضحايا ليرووا لنا قصصهم ورغم أنهم كثيرون وبعشرات الآلاف لكن القليل جداً من يقبلون التحدث للإعلام خشية أن يتعرضوا لأذى لأي من أطراف الحرب.

أما النساء اللواتي أصبحن من ذوات الإعاقة بسبب الحرب فرغم أنهن دفعن ولا يزلن ثمناً مضاعفاً إلا أننا واجهنا صعوبات كثيرة في إقناعهن بالتحدث عن قصصهن لا سيما أننا نريد أن يكون جزء من سرد القصة بصوت أصحابها ما حال دون الوصول للكثير منهن.

وفي وطن مثخن بالجراح وتمزق نسيجه الاجتماعي كنا نتعرض لتحقيق مطول من بعض الأشخاص من قبيل: “من أنتم؟ ومن تتبعون؟، من أين أنتم؟، ولماذا الاتصال بي أنا تحديداً؟، ما ستكتبون لصالح من؟، ما الذي سأستفيد منكم لو قلت لكم قصتي؟”.

وأحدهم كانت إجابته صادمة ومؤلمة حيث قال لنا: “ما حصل قد حصل، ولن تستطيعوا أن تعيدوا لي ما فقدت وخلوها على الله بس” وأغلق الهاتف ورفض الإجابة على اتصالاتنا.

وختاماً نضع هذه السلسلة بين أيديكم كشهادة على فداحة الحرب في اليمن، ونأمل أن يأتي اليوم الذي يتم فيه إنصاف الضحايا والانتصار لحقوق ذوي الإعاقة عموماً.

كما نضع الدولة والمنظمات الإنسانية ومؤسسات ذوي الإعاقة أمام دورها الحقوقي والإنساني، وندعو لتبني قضية الأشخاص ذوي الإعاقة ضمن منظومة حقوق الإنسان في اليمن وعدم تجاهلهم في أي حل أو تسويات مقبلة، ونتطلع إلى توسيع دائرة المناصرة لقضايا وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بحيث يشعر الجميع أنها قضيتهم وندرك أن هذا مشوار طويل ويجب أن نضعه هدف ونسعى مع جميع المؤمنين بحقوق ذوي الإعاقة وحقوق الإنسان عموماً لتحقيقه.

من احتضان ميت إلى معانقة الحياة.. حسين الخشعي ومعادلة النجاح.

من احتضان ميت إلى معانقة الحياة.. حسين الخشعي ومعادلة النجاح.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

كثيرون من يتحدثون عن الطموح والإرادة.. هناك في الأدنى عند ازدحام باعة الأوهام والحلول المعلبة، هناك عند استهلاك العبارات التحفيزية المملة والمكررة والتي لا تُحدث فارقاً يُذكر.

وقليلون جداً هم الذين في القمة.. حيث لا تواكل ولا تواني، حيث سهر الليالي والتفكير في الحلول لا التوقف عند المشكلات.

قصة اليوم فريدة ومختلفة جداً وتستحق أن تروى، وقد كنت شاهداً على فصلها الأهم.

لقد كنت قبل عامين في مهمة تدريبية رفقة زوجتي لمعلمين ومعلمات على طريقة برايل للمكفوفين في محافظة شبوة جنوب البلاد، إذ أن جمعية المكفوفين هناك والتي تأسست منذ سنوات قليلة كانت تخطط لافتتاح أول مدرسة للمكفوفين في المحافظة، حيث أن ذوي الإعاقة عموماً والمكفوفين خصوصاً أقل حظاً في تلقي مختلف الخدمات أسوة بغيرهم في باقي المحافظات.

كان عدد المتدربين قرابة العشرة أو يزيدون، لكن واحداً منهم كان لافتاً للانتباه بشكل واضح اسمه “حسين محمد الخشعي” قدم نفسه على أنه خريج ثانوية وفقد بصره قبل عامين، وبنبرة صوت لا تخطؤها الأذن كان فرحاً وهو يقول: “أخيراً سأتعلم طريقة برايل وأستطيع القراءة والكتابة مرة أخرى، هذا أمر جميل سأقرأ مرة أخرى ولو بطريقة مختلفة”

خلال الثلاثة الأيام الأولى حفظ حسين جميع رموز طريقة برايل باتقان، وفي اليوم الرابع بدأت معه بشكل خاص تعليم مبادئ الكتابة على اللوح والقلم المسماري.

في بداية الأسبوع التالي وضع بين يدي ورقة ضمنها قطعة تعبيرية بسيطة يتحدث فيها عن سعادته بتعلم طريقة برايل للمكفوفين وشكره للقائمين على الدورة –احتوت القطعة على بعض الأخطاء نعم- لكن الوقت القياسي الذي تعلم فيه القراءة والكتابة بطريقة برايل كان مدهشاً.

وبنهاية الأسبوع الثاني قرأ الشاب حسين أول صفحة من القرآن الكريم بطريقة برايل، وكانت ابتسامته واضحة لو وُزعت على أشقياء الأرض لوسعتهم، حينها غالبت دمعة كادت تخونني أمام المتدربين.

ومن وقت لآخر كان المتدربون يعبرون عن إعجابهم بطموح حسين وذكائه وكيف أنه لم يستسلم لإعاقته الحديثة.

حسين يفاجئنا بقصة غير متوقعة.

وفي ذات استراحة قال لنا حسين: “المكفوفون في هذه المحافظة محرومون بشكل كبير ومن يتعلم منهم أو يحقق إنجاز فهو بدافع وجهد شخصي ويعلم الله كم من المكفوفين في منازلهم دون تعليم ودون رعاية”، وأضاف  قائلاً: “في منطقتنا حصل أن انفجر لغم بأحد كبار السن وذهب ثلاثة من الشباب لمحاولة إنقاذه، وقبل أن يصلوا إليه بأمتار قليلة انفجر بهم لغم آخر واشتعلت سيارتهم وتوفي اثنان منهم ونجا الثالث، لكنه نجا بعد أن قلعت عينه اليمنى وتلف العصب البصري في العين اليسرى فأصبح كفيفاً كلياً، ظل ذلك الشاب في المستشفى أكثر من عشرة أيام، وبعد خروجه بحث كثيراً عن العلاج دون فائدة فالعصب البصري قد تمزق تماماً”

سألنا حسين: وكيف كان شعوره بعد أن عرف أنه قد أصبح كفيفاً للأبد؟

قال حسين: “لقد دخل في حالة نفسية يرثى لها، ووجد أن الظلام يلفه من كل ناحية فلن يتمكن من مواصلة تعليمه، ولن يستطيع العمل، كما أنه لم يعد قادر على استخدام الهاتف الذي كان شغوفاً به وكان مهتم بقراءة الكتب بشكل كبير، لكن حدث تغير كبير في حياته عندما عرف لأول مرة أن المكفوفين قادرون على استخدام الهاتف والكمبيوتر من خلال برامج ناطقة، واشترى تلفوناً وزوده بالبرنامج الناطق وبدأ يتواصل مع الناس وأدرك أن هناك مكفوفين كثيرين غيره، والأهم أنه عاد لقراءة الكتب بنهم كبير بعد أن كان يحمل تسجيلات صوتية مملة لبعض الكتب”

باهتمام سألنا حسين: وأين هو الآن؟

قال حسين: “بعد تحميل البرنامج الناطق لهاتفه وكسر عالم العزلة تواصل بزملاء مكفوفين له وعرف أن هناك دورة ستقام لتعليم طريقة برايل في شبوة فلم تحمله قدماه فرحاً وعلى جناح السرعة جاء إلى هنا وهو من يحدثكم الآن”

حسين يجيب عن الأسئلة الصعبة.

صمتٌ وذهول تملك الجميع، ثم بدأت الأسئلة:

ما الذي كنت تعرف عن المكفوفين من قبل؟

“معلومات قليلة هنا وهناك وبعض الفيديوهات”

لحظة الانفجار كيف كان شعورك؟

“لقد كنت في فم الموت ومات اثنان إلى جانبي، وكان الظلام هو سيد الموقف”

ما الموقف الذي لا تنساه أثناء الحادث أو بعده؟

“عندما انفجر بنا اللغم كنا في السيارة ثلاثة أشخاص وعندما جاء المواطنون لإسعافنا كنت لا أرى شيء وبسبب وعورة الطريق وسرعة السيارة ولأني لا أرى أي شيء فقد كنت متمسك بجثة صديقي الذي كان ميتاً إلى جواري، لقد كان مشهداً قاسياً للغاية”

ما أصعب موقف مر بك؟

“لقد بحث كثيراً عن العلاج وانتقلت من طبيب لآخر ولم أكن أعلم بماهية العصب البصري وأنه إذا تلف لا يمكن العلاج، لذلك كلما يأست من طبيب انتقلت لآخر وكان لدي بصيص أمل رغم أن هناك صوت بداخلي يقول لي “إنك لن ترى أبداً” ومع ذلك استمريت في المحاولة إلى أن وصلت إلى طبيب مصري الجنسية فقال لي بصراحة: “أنت فقدت عصبك البصري ولن ترى أبداً وعليك أن تتوقف عن استنزاف أموالك بلا فائدة وعليك أن تتقبل واقعك بشجاعة” وما كان كلام الطبيب إلا صداً لصوت في أعماقي سمعته بأذني فشعرت أن الحياة أغلقت أبوابها في وجهي تماماً، لكنها أشهر وقررت أن أعيش حياتي الجديدة وأعمل على أن تكون سعيدة ومليئة بالصبر والرضى وكنت أستذكر حديث النبي محمد (ص): {من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط}”.

رسائل واضحة ودقيقة.

وهكذا فقد استطاع حسين أن يتعلم طريقة برايل وهو الآن يستعملها بمهارة، وقرر أن يواصل مشواره التعليمي الذي كان قد توقف عنه عام 2011 بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، فسجل في إحدى الجامعات تخصص علوم قرآن وامتحانات نهاية العام الأول على الأبواب.

ويوصي حسين زملائه ذوي الإعاقة بعبارات دقيقة وواضحة: “لا تستسلموا للظروف وإن بدت صعبة واعملوا وفق المتاح أفضل من اليأس والتوقف، اقتنصوا الفرص وأهلوا أنفسكم ولا تضيعوا أوقاتكم، ومالم تبحثوا عن أنفسكم فلن يبحث عنكم أحد”

وللدولة والمنظمات يقول حسين: “إن ذوي الإعاقة تعرضوا لتهميش كبير ويجب أن يحظوا بالرعاية والتأهيل، وعلى المنظمات أن تجعل ذوي الإعاقة ضمن اهتماماتها ولا تتجاهلهم، كما أن التعويض وجبر الضرر حق لكل مواطن تعرض للإعاقة بسبب الحرب الدائرة في البلاد”

لم يعد بهدية بل عاد بنصف حضن.. علي ومأساة معاقي الحديدة.

لم يعد بهدية بل عاد بنصف حضن.. علي ومأساة معاقي الحديدة.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

في مديرية “الجراحي” جنوب محافظة الحديدة يعمل الشاب العشريني علي صالح الفقيه متنقلاً بين بعض الأفران لتأمين حياة كريمة له ولأسرته، لكن ما يتقاضاه لم يعد كافياً لمواجهة التزاماته خصوصاً مع ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب الحرب، لذلك بدأ يتطلع لعمل آخر ويبحث هنا وهناك.

وفيما الأفكار تلعب برأس علي يمنة ويسرة يستقبل اتصال من أحد الأصدقاء يزف إليه بشرى بفرصة عمل في إحدى المزارع في مديرية “الخوخة” المجاورة، طار علي فرحاً بالخبر وأخذ يستعد للعمل الجديد بعد إجازة عيد الأضحى الذي سيكون بعد أيام قليلة.

لم يعد بهدية.. بل عاد بنصف حضن.

بعد عيد تخللته مظاهر احتفال بسيطة وعادية ككل الأهالي في هذه المنطقة، فالحرب سلبتهم كل شيء وباتوا يقاتلوا على الضروريات وأبسط مقومات الحياة، بعد إجازة العيد ودع علي أسرته وقبل ابنه أحمد ذو الثمانية أعوام على جبينه طالباً منه أن يجتهد في دراسته ووعده بهدية جميلة نهاية العام عند تفوقه.

وفي أحد أيام شهر أغسطس آب عام 2021 نهض علي مبكراً كالعادة للعمل في المزرعة، وكان ذلك اليوم موعد ري المزرعة.

لقد قام علي ليزرع الأرض، بل قام ليزرع الحياة، ليزرع الحب، ليأكل من عرق جبينه دون أن يأخذ أو يسلب حق أحد، قام علي ليعتني بالأرض كمعظم أبناء تهامة البسطاء الذين يصدرون لهذه البلاد ما تجود به الأرض من كل الأصناف بينما يبادلهم الآخرون نكراناً وجحوداً واستغلالاً.

وأثناء ما كان علي يقلب التراب “بالكُريك” إحدى آلات الزراعة ويفتح المجال للماء ليصل إلى كافة أنحاء المزرعة لاحظ قسوة الأرض فظنها حجراً، لكنها لم تكن قسوة الأرض بل قسوة الإنسان إذ كان ما يحاول علي تحريكه لغماً مضاد للأفراد انفجر به ليطير عدة أمتار ويفقد ذراعه اليسرى على الفور.

هُرع من في المزارع المجاورة إلى المكان ليجدوا علي وقد تخضب بالدماء والشظايا في كل مكان في جسمه وهو مغمى عليه ومرمياً على الأرض، وعلى عجل قام المواطنون بإسعافه إلى إحدى مستشفيات المحافظة.

يقول علي للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة: “لقد استمريت في الغيبوبة حوالي خمسة أيام، وحينما فقت عرفت بأني فقدت يدي اليسرى فضلاً عن الجروح البليغة في أماكن كثيرة في جسمي حتى أنني ظللت أشهر لا أستطيع الحركة، كان شعوراً غاية في الألم لا أستطيع وصفه، تخيل أن تفقد طرفاً من أطرافك وأنت معيل الأسرة، استمريت عدة أشهر في المستشفى قبل أن أعود إلى البيت”.

عاد علي إلى بيته كشخص من ذوي الإعاقة، عاد وهو لا يحمل لابنه أحمد الهدية التي وعده بها بل عاد وقد قُطعت يده وسيحتضن ابنه وزوجته بيد واحدة مع تنهيدات ودموع تختبئ خلف حدقات عينه ليذرفها كلما استبدت به الوحدة والشعور بالعجز.

للاستماع لقصة علي بصوته يمكنكم الضغط هنا

أتمنى أن يحقق ابني ما كنت أحلم بتحقيقه.

لم يتقبل علي الوضع الجديد بسهولة فلم يكن يخطر على باله أنه قد يتعرض لإعاقة وبأنه لن يستطيع مزاولة الأعمال التي كان يعملها من قبل فدخل في حالة اكتئاب واعتزل الناس، يقول علي: “كرهت الخروج من المنزل، بل أغلقت على نفسي الغرفة ولا أخرج منها إلا للضرورة واستمريت على هذا الحال عام كامل، ثم أدركت أنه لا فائدة من اليأس بهذه الطريقة، كما إن أسرتي وقفت إلى جانبي بقوة وحفزتني وهذا ما أعاد لي الأمل في الحياة من جديد”

وبدعم من بعض المنظمات ذهب علي لإجراء عمليتين جراحيتين إحداهما في صنعاء والأخرى في عدن غير أنه لم يستفد منهما شيء على حد قوله.

ومنذ حوالي عام ينتظر علي كل يوم أن تتصل به إحدى المنظمات التي وعدته أو أي مؤسسة من مؤسسات ذوي الإعاقة ليحصل على طرف صناعي يستطيع من خلاله مزاولة بعض الأعمال ليعيل أسرته.

يحدثنا علي بمرارة كيف أنه كان يحلم بأن يتعلم ويصبح طبيباً يخدم المجتمع ويقول: “تعلمت القراءة والكتابة ولم أستطع أن أكمل تعليمي بسبب الظروف المادية واضطراري للعمل، والآن أتمنى بأن أحصل على مشروع خاص أستطيع العمل فيه بنفسي لأعيل أسرتي وأدعم ابني ليكمل تعليمه ويحقق ما كنت أتمنى أن أحققه”

ويوجه علي الرسالة للدولة وكل أطراف الحرب بقوله: “نحن مواطنون تعرضنا للإعاقة دون أي ذنب فكما كنا ضحية حربكم فلا تنسونا وأنتم تتفقون على الحل، لست وحدي فهناك كثيرون غيري وخصوصاً محافظة الحديدة فهي من أكثر المحافظات التي تعرض فيها المواطنون للإعاقة بسبب الحرب”

وما قاله علي هي حقيقة يعرفها الجميع، وقد لا تتصورون أننا تواصلنا في يوم واحد بثلاثة عشر حالة تعرضت للإعاقة بسبب الحرب ولكن الكثير منهم بلغ الوجع منهم أنهم لم يستطيعوا التعبير عن وجعهم حتى أن أحدهم حينما طلبنا منه أن يروي لنا شهادته على الحرب كواحد من ضحاياها اكتفى بالقول: “ما حصل قد حصل والجرح كبير والوجع كبير خلوها على الله بس” وأغلق التليفون.

وحتى علي الفقيه ضللنا كثيراً نقنعه بأن يروي لنا شهادته، وبعد جهد جهيد روى لنا قصته باقتضاب وأرسل لي في الأخير هذه الرسالة:

“أنا وثقت فيك وحكيت لك دون أن أعرفك فأنا في وجهك لا تضرني بشيء وهذه أمانة في رقبتك، حتى أن أمي ما كانت تريد أن أحكي لك قصتي لكني قد وعدتك”

فهؤلاء الضحايا الأبرياء الذين دفعوا كل ذلك الثمن الباهظ من أرواحهم وصحتهم وأحلامهم يخشون حتى أن يعبروا عن ألمهم، ألا يعتبر كل ذلك الخوف والقهر وصمة عار على جبين صانعي مأساتهم!، ألا يكفي كل ذلك لتتوقف الحرب إلى الأبد!.

لقراءة القصة باللغة الأنجليزية من خلال الرابط التالي :


The Tragic Story of Ali: A farmer who Encountered an Anti-personnel Mine

وفقد أحمد الابتسامة للأبد.. فهل خطفها أصحاب الصور الجماعية؟

وفقد أحمد الابتسامة للأبد.. فهل خطفها أصحاب الصور الجماعية؟

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي/

الوقت: الواحدة بعد منتصف الليل، المكان: عمارة سكنية في صنعاء بها عدة شقق وتسكنها عدة عائلات من محافظات مختلفة، الحادث: صوت طفل يبكي بصوت مرتفع منذ حوالي ساعة، بكاء الطفل يرتفع ويتحول صراخاً شديداً مع جلبة في إحدى الشقق.

ما الذي يحدث؟!، لقد اعتاد سكان العمارة على الهدوء فمعظمهم موظفين في أعمال مختلفة ويعملون طوال النهار ما يعني أن العمارة تكون في الليل هادئة، كما أن المستأجرين هم أنفسهم ولا يوجد مستأجر جديد، ثم لماذا يصرخ ذلك الطفل بهذا الشكل؟! هل ثمة أمر غير عادي يحدث في إحدى الشقق؟!.

ومع اشتداد صراخ الطفل يتنادى المستأجرون في العمارة للخروج والتوجه ناحية الشقة مصدر الصوت، يطرق أحدهم الباب ليخرج إليهم رجلاً من الشقة وقد احمرت وجنتيه خجلاً ويقدم لهم الاعتذار بشدة عما يحدث طالباً منهم المسامحة وتفهم الوضع.

يهمس أحد الجيران: “أي وضع وما الذي يمكن أن يحدث حتى يصرخ طفل بكل هذا الوجع؟!”

في الداخل يتصل عبد الكريم طاهر بأحد أقاربه في محافظة تعز جنوب غربي اليمن: “مرحباً لقد وصلنا صنعاء بعد العصر تماماً ومعنا أحمد، لم نتجه لبيت أقاربنا لأخذ قسط من الراحة فالوضع كان يبدو خطيراً ولا يحتمل لذلك نزلنا فوراً بأول عيادة رأيناها، ولحسن الحظ فالطبيب هنا واحد من أمهر الأطباء في الأذن والحنجرة بشهادة الكثير رغم أننا لم نعرفه من قبل، المهم الطبيب شخص حالة أحمد وقال لنا: “إن لدى أحمد تجمع لسوائل وقيح في الأذن وأن التسوس يأكل الأعصاب وقد يصل إلى الدماغ، وإن أحمد بحاجة لعملية طارئة ومستعجلة أو قد يتعرض للوفاة إذا ما وصل التسوس للدماغ”، هذا ما قاله الطبيب  لكن قيمة العملية قرابة نصف مليون ولا يوجد لدينا هذا المبلغ فعدنا إلى بيت أقاربنا ريثما نتمكن من جمع المبلغ أو نقترضه، ولكن أحمد يتألم بشدة ويصرخ حتى أنه من شدة الصراخ تجمع الجيران في العمارة وهم الآن في الباب يسألون عن السبب”

وضاعت الابتسامة رغم كرم الجيران.

مضت ثمانية وأربعين ساعة وعبد الكريم في سباق مع الزمن لإنقاذ حياة شقيقه أحمد، الجزء الأكبر من المبلغ تكفل به الجيران واستطاع عبد الكريم مع أسرته جمع باقي المبلغ في اليوم الثالث ليطير على جناح السرعة إلى المستشفى، وهناك خضع أحمد لعملية جراحية معقدة ولكن للأسف تم استئصال الأذن الوسطى والعصب السابع “والعصب السابع هو المسؤول عن تعبيرات الوجه وثلثي حاسة التذوق”، لذلك فأحمد لم يعد قادر على إغماض عينيه تماماً عند النوم وحتى الابتسامة وغيرها من التعبيرات لم يعد يستطيعها أحمد.

وطلب الطبيب من أسرة أحمد العودة به بعد ثلاثة أشهر لإجراء عملية أخرى ضرورية للحيلولة دون وصول التسوس إلى الدماغ وتهديد حياته وهو ما تم بالفعل، وبعد العملية الثانية فقد أحمد القدرة على السمع كلياً.

صورة أحمد في المستشفى

حينما يغدو الموت أُمنية.

كان يبلغ أحمد طاهر ثلاثة عشر عاماً ويدرس في الصف الثامن الأساسي عندما تعرضت قلعة القاهرة في محافظة تعز لقصف جوي صباح يوم الاثنين الموافق 11 مايو أيار 2015 وبسبب صوت القصف العنيف تضررت أذن أحمد وأصبح يشكو منها بشدة، وحينما ذهب أحمد رفقة شقيقه عبد الكريم للمستشفى اكتفى الطبيب العام بصرف مضادات حيوية وبعض الأدوية، لكن ألم الأذن عاد بعد أشهر قليلة وتزايد الألم حتى أن أقوى المهدئات لم تعد تجدي نفعاً.

عاش أحمد أياماً وأسابيع من الألم الشديد حتى فارق عينيه النوم وذبل جسمه، وبسبب شدة المعاناة والوجع كاد أحمد أن ينهي حياته أكثر من مرة لولا أن حالة عناية الله وتدخل الأسرة في الوقت المناسب.

بصيص أمل وحلم لم يموت.

سافر أحمد بدعم من فاعلة خير إلى الهند لإجراء عملية جراحية وزراعة قوقعة في إحدى الأذنين واستعاد 5% فقط من السمع فيها، صحيح أنها نسبة بسيطة ولا تكاد تُذكر لكن أحمد عاد وسمع العالم من جديد وتعجز الكلمات عن وصف سعادته، وكما قال لنا أخوه عبد الكريم: “كاد أحمد يطير فرحاً، لقد عادت أحلامه لتزهر من جديد، عاد أحمد يحلم بالعودة للمدرسة والاختلاط بالناس بعد حوالي سنتين من العزلة والحالة النفسية غير الجيدة”

وبالفعل ورغم الصعوبات الكثيرة استطاع أحمد بفضل إصراره ووقوف أسرته إلى جانبه أن يكمل الدراسة والتخرج من الثانوية العامة.

ورغم إصرار أحمد ووعي أسرته التي وقفت معه خطوة خطوة ولا سيما شقيقه عبد الكريم الذي يحمل مؤهل مساعد طبيب ويدرس حالياً تخصص أطراف صناعية رغم كل ذلك إلا أن عبد الكريم يشكو من غياب المؤسسات الإنسانية وفي مقدمتها مؤسسات ذوي الإعاقة  عن معاقي الحرب من المدنيين، ويقول أن مؤسسات ذوي الإعاقة لم تقدم لأخيه أحمد أي مساعدة من أي نوع حتى المساعدة والدعم النفسي أو التدريب والتأهيل الذي هو بأمس الحاجة إليه.

يقول عبد الكريم عن أخيه: “إن أحمد يعاني بشدة بسبب أن الإعاقة جديدة عليه ولم يتعود عليها منذ الولادة، وأحمد كان ولا يزال شخصية اجتماعية ويحب لعبة كرة القدم، كما أنه شغوف بالتعليم ولكنه واجه صعوبات كثيرة في حياته التعليمية بسبب عدم انتشار لغة الإشارة وصعوبة التفاهم مع المعلمين وخصوصاً النساء حيث أن أحمد يعتمد كثيراً على لغة الشفاه ولا يستطيع قراءة شفاة المعلمات أو المتخصصات الملثمات مثلاً، حتى أنه بعد إكمال الثانوية العامة ترك أحد الأعمال بسبب أنه لم يتمكن من التفاهم مع إحدى الموظفات”

وكثيرة هي صور المعاناة التي حدثنا عنها عبد الكريم وأحمد ذاته لكنها لم تمنعه من الاستمرار والحلم بغد أفضل، وهو الآن يدرس في المستوى الثاني في المعهد التقني تخصص تمديدات كهربائية، ويأمل أن يتمكن من كسب حرفة يستطيع أن يعتمد من خلالها على نفسه، وكذلك يأمل بأن يتمكن من السفر لزراعة قوقعة في الأذن الأخرى.

وهكذا هي قصص المدنيين ضحايا بلا بواكي وأنين بلا صدى ومؤسسات تخذلهم وأطراف حرب لم تأنبهم ضمائرهم لينظروا في ملف معاقي الحرب المدنيين كما يجب وبما يرتقي لحجم المأساة والوجع.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

بودكاست ما وراء الحرب

بودكاست ما وراء الحرب

ما جرى لضحايا الحرب في اليمن من المواطنين المدنيين غاية في الألم وقصص تدمي ضمير الإنسانية، ورغم أن خلف قصة كل ضحية وجع ودموع لم تجف بعد فإنما تعرضت له أسرة منصور سعد الضبيبي، هي فاجعة بكل المقاييس نُكِبت فيها أسرة بأكملها.لمعرفة تفاصيل القصة يمكنكم الاستماع لبودكاست ما وراء الحرب الحلقة (السابعة) بعنوان “مأساة أسرة يمنية في صنعاء تهز ضمير الإنسانية.. أسرة الضبيبي والثمن الباهظ”

“تم إنتاج هذه الحلقة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

مأساة أسرة يمنية في صنعاء تهز ضمير الإنسانية.. أسرة الضبيبي والثمن الباهظ

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

ما جرى لضحايا الحرب في اليمن من المواطنين المدنيين غاية في الألم وقصص تدمي ضمير الإنسانية، ورغم أن خلف قصة كل ضحية وجع ودموع لم تجف بعد فإنما تعرضت له أسرة منصور سعد الضبيبي، هي فاجعة بكل المقاييس نُكِبت فيها أسرة بأكملها.

قصة أسرة منصور الضبيبي واحدة من أكثر قصص الحرب مأساوية وفداحة فهناك من تعذب حتى الموت وهناك من تعرض لإعاقة دائمة فضلاً عما عانته الأسرة من ضياع وتشرد وما تزال.

في قصتنا لهذا الأسبوع من سلسلة “ما وراء الحرب” سنقف معكم على الثمن الباهظ جداً الذي دفعه المدنيون من خلال مثال واحد لأسرة وصلت إلينا في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة حيث قابلنا الوالد وتعرفنا على إثنين من أولاده ولم نستطع بعد المقابلة السيطرة على مشاعر الحزن والألم لما تعرضت له هذه الأسرة، فماهي القصة من البداية؟

من هي الأسرة المنكوبة ولماذا؟!.

علي سعد الضبيبي، من أبناء محافظة ريمة، يسكن في منطقة صرف التي تتبع إدارياً مديرية “بني حُشيش” إحدى مديريات محافظة صنعاء شرق أمانة العاصمة.

انفصل عن زوجته بعد أن أنجب منها طفلين هما سعد الذي كان عمره ثمان سنوات، وإلهام والتي كان عمرها ست سنوات، ويقول منصور أن ما تسببت به الحرب من تبيعات اقتصادية كانت سبب في انفصالهما.

تزوج منصور من امرأة أخرى وأنجب منها طفلين آخرين هما: أميرة، خمس سنوات، وزغير، ثلاث سنوات.

وكان يملك محلاً لتزيين المركبات بالإضافة لعمله في أعمال حرة مختلفة، وكانت حالته الاقتصادية جيدة حسب قوله، حيث كان يملك قطعة من الأرض في أمانة العاصمة إذ تعتبر قطعة الأرض أصلاً ثابتاً عالي القيمة.

وفي مساء يوم الثلاثاء الموافق 2 فبراير شباط 2016 شن الطيران ثلاث غارات على كلية المجتمع في صنعاء، وخلف القصف خسائر مادية وبشرية بين المواطنين بالإضافة لتدمير ثلاثة معامل في الكلية قدرها عميد الكلية د. علي السنباني، حينها بثلاثة ملايين دولار أمريكي.

يروي لنا منصور الضبيبي قصة الأسرة وكيف تعرضت للمأساة في ذلك اليوم الكئيب يقول:

“كنت على متن السيارة مع زوجتي وابني سعد وبنتي إلهام، حيث كان الطفلين في صندوق السيارة بينما كنت أنا وزوجتي في الغمارة، وكان الوقت حينها بعد المغرب عندما مررت بمحاذاة سور كلية المجتمع قاصداً منزلي الذي يقع خلف الكلية تماماً فإذا بغارة جوية عنيفة رأينا على إثرها نوافذ البيوت تتطاير والناس يصرخون في الشارع، وكدت أفقد السيطرة على السيارة بسبب اهتزازها الشديد عقب الغارة، وتوقفت وأخذت أحمل أطفالي بسرعة وأدفعهم إلى الغمارة وأثناء ذلك شن الطيران غارة أخرى أشد عنفاً طارت بي مع أطفالي وزوجتي عدة أمتار وأُغمي علينا جميعاً”

هرع المواطنون إلى المكان لإسعاف الأسرة إلى المستشفى وقد هالهم منظر الأطفال والدماء تغطي وجوههم وتعبث الشظايا والجراح بملامحهم البريئة.

ذنب تلك الأسرة وغيرها من الأسر التي تسكن بجوار كلية المجتمع أن طرفاً اعتقد أن قيادات الطرف الآخر في الحرب مجتمعون في الكلية وهذا ما ثبت فيما بعد عدم صحته، هكذا بكل استهتار يتعامل المتحاربون مع المدنيين وكأنهم ليسوا بشراً.

المصائب لا تأتي فرادى

منذ ذلك اليوم بدأت معاناة منصور الضبيبي وأسرته ولا تزال، فالوالد أصيب بعدة جراح بالغة في الرأس والرجل اليمنى ظل شهرين يتعالج في المستشفى على إثرها.

لكن الأكثر وجعاً هي الطفلة إلهام ذات الستة أعوام التي أُصيبت بفشل كلوي وتوفيت بعد جلستين فقط لغسيل الكلى.

أما أخوها سعد والذي يكبرها بعامين فقد أصابت شظية عينه اليسرى ليفقد النظر بها تماماً، وكان تشخيص الأطباء مصيبة أخرى على سعد وأسرته حيث كان التشخيص قاصراً ولم يتم فصل الشبكية وتنظيف العين من سموم الشظايا بالشكل المطلوب – وهذا ما أثبتته التقارير الطبية من المستشفيات الهندية والمصرية التي اطلعنا عليها والد سعد.

اضطر منصور للسفر بابنه سعد إلى الهند للعلاج عام 2019 بعد أن باع المحل وقطعة الأرض التي كان يمتلكها ولم يجدِ ذلك شيءً فالعصب البصري قد تلف وفقد سعد النظر في العين اليمنى كذلك.

وبعد أشهر عقب عودتهما من الهند كانت آلام الزوجة التي بدأت من ثلاث سنوات تزيد أكثر وأكثر، وعند اشتداد الألم ذهب منصور رفقة زوجته للمستشفى ليُصعق بتشخيص الأطباء بأن الزوجة تعاني من سرطان خبيث في الثدي بسبب بعض المواد المحرمة التي ألقت بها الطائرات في قصف الكلية.

جمع منصور ما تبقى لديه من مال وما لديه من بصيص أمل لعلاج زوجته وابنه واستدان من الجيران وكذلك فعلت زوجته وقرر الذهاب إلى مصر ولكن دون جدوى فسعد لم يُبصر والزوجة لم تُشفى بل وتوفيت بعد أشهر فقط من عودتهم من مصر، ليبقى منصور ومعه ثلاثة أطفال صغار لا يعرف كيف يرعاهم أو كيف يلبي متطلباتهم.

أين يضع منصور أطفاله حينما يخرج للعمل؟ وماذا يريد؟

تغص العبرة بحلق منصور حينما يتحدث عن أطفاله وكيف أصبحوا يتامى بلا حنان ولا رعاية أم، يقول منصور: “بعد أن بعت كلما أملك وأصبحت غارماً ومديوناً للناس أقاتل حتى أتمكن من توفير لقمة العيش لأولادي الثلاثة”.

وعندما سألناه أين يترك أولاده عند خروجه للعمل؟ كانت إجابته صاعقة حيث قال لنا بأنه يترك أبنائه عند الجيران أو بعض من تربطهم به قرابة بعيدة حتى يعود.

سعد يبلغ الآن من العمر قرابة الخمسة عشر عاماً بينما تبلغ أميرة من العمر خمسة أعوام فيما يبلغ زغير من العمر ثلاثة أعوام، والابن الأكبر سعد يدرس حالياً في الصف الرابع الأساسي بمركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين بصنعاء.

لم نستطع أن نسأل منصور عن أوجاعه أكثر رأفةً به وبنا، لكننا ختمنا اللقاء بسؤال واحد:

لو قُدِر أن نوصل صوتك للمعنيين ومن بقي لديهم ذرة من ضمير – فماذا تريد أن تقول؟

أخذ منصور نفساً طويلاً وقال: “بعد أن كنت ميسوراً أصبحت غارماً ترهقني ما علي من ديون وأرجوا أن تعتبرني الجهات المختصة معسراً ولدي كلما يريدون من إثباتات وشهود، وبالنسبة لي فقد تدمرت حياتي وتحطمت أحلامي ولكني أفكر بأطفالي الصغار الذين فقدوا حنان الأم وليس لدي في المنزل من يقوم على رعايتهم، أريد أن أتمكن من الزواج ليس ترفاً ولا رفاهية ولكن لأجل الأطفال الذين لا أدري أين أضعهم عند خروجي للعمل، أريد من يعوض أطفالي بعض حنان الأم ولا ينحرموا من التعليم، سعد أصبح يافعاً ويوجعني قلبي عندما أراه مهموماً شارد الذهن”

وهكذا هي الحرب قاسية ومتوحشة لم تستثني من وحشيتها أحد، قصص من وراء الحرب استطعنا أن نصل للقليل منها والكثير نار تحت الرماد وأنين موجوعين خلف جدران التغافل والتناسي من قبل الكثيرون – فهل آن للضمائر أن تستيقظ؟.

نلقاكم الأسبوع القادم.