الوسم: قصص نجاح
الحلقة الأولى – قصة : صباح العتبي .. (ملكة الشطرنج)
بقلم /إبراهيم محمد المنيفي، تقديم /تهاني البهلولي إشراف / دارس البعداني .
خاص : مصطفى صالح /
من وسط واقع مظلم تتكالب عليه الظروف والمصاعب، تنبثق نماذج مشرقة تؤكد إمكانية قهر الظروف والتغلب عليها متى ما وُجِدت الإرادة القوية والثقة الذاتية والغاية النبيلة.
آلاء ذات الـ 11 عامًا وشقيقها أبان المشاكس اللطيف الذي يقترب من إكمال ربيعه السادس ، طفلان من ذوي الإعاقة السمعية لم يعرف الأطباء سبب إعاقتهما حتى الآن، مثلا نموذجا يحتذى به في الإيمان بالقدرات والمواهب والإبداع، ساعدهما بذلك والدان يفخران بهما ويثقان بقدراتهما ويؤمنان بأن الإعاقة ليست نهاية المطاف وليست المشكلة في الإعاقة بل في النظرة القاصرة لذوي الإعاقة.
والد الطفلان، عادل علي دبوان الشحري، طبيب أسنان، من محافظة تعز، يقيم مع عائلته في السعودية منذ نهاية العام 2014، لفت انتباه آلاف المستخدمين على السوشال ميديا داخل الوطن وخارجه، عبر مشاركته لمقاطع فيديو لطفليه، ذات محتوى ترفيهي وتعليمي في الوقت نفسه.
يقول الوالد في حديث مع ( MCPD) إن الفكرة انطلقت عندما بدأت طفلته آلاء بالمشاركة في مناسبات وطنية بالسعودية، وحينما رأى حجم التفاعل الكبير معها على (تويتر وسناب شات)، سجل لها عدة مقاطع مرئية ونشرها على صفحته في الفيسبوك، ولاقت تفاعلاً كبيراً، فدعمها بشكل أكبر بافتتاح قناة لها على اليوتيوب تقدم محتوى تعليميا بطريقة ترفيهية، على أن تقدم مستقبلا دروسا تعليمية بلغة الإشارة.
ويتحدث عادل برضى كبير عن ارتفاع الوعي بأهمية لغة الإشارة وفهمها لدى متابعيه رغم وجود ردود “صادمة” من قبل بعضهم في بداية المشوار، لكن كان يتكفل بالرد عنها بقية المتابعين، ومن ردود الفعل السلبية يذكر حالات تنمر كان يزعم أصحابها أن بعض حركات (لغة الإشارة) هي رموز للصليب، والشيطان، والماسونية!.
في حين أن من المواقف الإيجابية الدعم المعنوي الذي تلقته طفلته آلاء من المتابعين وبعض المشهورين، أما الدعم والتشجيع من أي جهات رسمية أو خاصة في اليمن فلم يحظَ به طفليه خصوصا بعد استقرارهما خارج البلاد.
تتلقى آلاء تعليمها النظامي، واليوم تدرس في الصف السادس الابتدائي بأحد معاهد “ذوي الإعاقة بالمملكة”، أمضت بعض مراحلها في مدارس دمج وبعضها في مدارس خاصة، فيما لم يلتحق شقيقها أبان بالتعليم بعد نظراً لصغر سنه.
ويواجه والدهما، صعوبات تتمثل في البحث عن مدارس لطفليه، فأحيانا يكون هناك مدينة ليس فيها مدرسة خاصة بذوي الإعاقة السمعية، وأحيانا يجد مدرسة ولا يجد فصلا لابنته آلاء، غير أنه بحكم الإقامة، يتغلب على تلك الصعوبات بمساعدة من الجهات الرسمية في منطقة جازان بالمملكة إذ قامت الأخيرة بتوفير فصل لآلاء حسب قوله.
يتمتع الطفلان بإبداعات وهوايات أهمها الرسم والاطلاع ولديهما شغف وهمة عالية في البحث عبر الانترنت عن أشياء جديدة وكلمات وأماكن، وأي فكرة تخطر على بالهما يقومان بالبحث والاطلاع على تفاصيلها.
وتحب آلاء الرسم كثيرًا وقد حصلت على جوائز كثيرة في مجال الرسم خلال مناسبات وطنية، وكذلك في المدارس على مستوى مناطق كبيرة بالسعودية، وسبق وأن شاركت آلاء أيضًا في أكثر من مسابقة وحصلت على جوائز في حفظ القرآن الكريم، ولديها أكثر من 20 ألف متابع على موقع فيسبوك ومتابعين كثر في سناب شات وتويتر وإنستقرام ويوتيوب.
يقول والد آلاء، إن طفلته لديها أيضًا مهارات قيادية، وغالباً هي متفوقة ومن أوائل المدرسة، وترشد زميلاتها على سبيل المثال أين يقضين الفسحة، وماذا يفعلن ويلعبن، ومتى يخرجن، وأين يلتقين يوم الجمعة، وهكذا في أمورهن اليومية، ويستدرك: “طبعا بأسلوب لطيف وليس بعنف كما يفكر البعض”.
وعن تفاصيل حياة آلاء وأبان اليومية يقول والد الطفلين: “يقضي أبان وآلاء تفاصيل يومهما كغيرهما من الأطفال، تندلع بينهما معارك الطفولة على الدفاتر والأقلام وبعض الألعاب أحياناً، وفي أحايين كثيرة تجمعهما علاقة مرحة وحيوية، ويتفنان في صنع المقالب اللطيفة لبعضهما” ويضيف ضاحكاً: “أبان أكثر تفوقاً في صنع المقالب لأخته”
الدور الأكبر في صنع نجاح آلاء وأبان بعد إرادتهما يعود للمدرسة العظيمة الأم فهي بحسب عادل صاحبة الدور الأكبر، إذ يقول ممتناً لها خلال حديثه مع ال-MCPD: “أنا منشغل بعملي ودوامي كطبيب أسنان، وتتحمل زوجتي العبء الأكبر وقد أصبحت اليوم متمكنة في لغة الإشارة، وتبحث ليلا ونهارا عن لغة الإشارة في الإنترنت وتعلمت من القاموس السعودي والمصري واليمني مما مكنها من جعل آلاء نموذجا يحتذى به في المدارس التي تدرس فيها، وتستفيد منها المدارس بالرجوع لها في ترجمة بعض المقاطع أو الكلمات بلغة الإشارة”
وعن خجل بعض أولياء أمور ذوي الإعاقة من إعاقة أبنائهم، يتأسف والد آلاء وأبان بشدة، ويرى أنها ظاهرة سلبية ومحبطة، ويقول إن من أسباب نشره لمقاطع طفليه، في السوشال ميديا هو زرع الثقة فيهما وكذلك تحفيز للمجتمع ولأولياء الأمور أن يظهروا فخرهم وثقتهم بأبنائهم، وأنهم بهممهم العالية سيواجهون كل الصعاب.
ولا يخفي أن هناك نظرة سلبية من بعض من وصفهم بـ”المتعلمين” الذين ينظرون إلى ذوي الإعاقة السمعية على أنهم أشخاص عنيفون، ويقول إنهم بالعكس أشخاص ذوي لطافة وأناقة، وإن كان هناك استثناء فذلك نتيجة عدم اختلاطهم مع الناس أو اختلاط الناس بهم على حد تعبيره.
ويطالب والد الطفلان، الجهات المختصة في اليمن بتوفير الصفوف لذوي الإعاقات في كل المناطق إن لم يكن في كل المدارس قائلاً: “إنهم “شريحة كبيرة جدا وسيخدمون المجتمع ويقدمون رسالة راقية جدا ويجب الاهتمام بهم”
وتوجه برسالة للمجتمع، وخصوصا لأولياء الأمور الذين لديهم أبناء من ذوي الإعاقة أن يثقوا بأولادهم ويزرعوا فيهم الثقة، وسيرون منهم الكثير والكثير.وعبر عن أمنيته بنشر لغة الإشارة في المرافق الحكومية والمستشفيات والمدارس والجامعات والمولات وكل المنشآت التي يرتادها ذوي الإعاقة السمعية.
وتمثل آلاء وأبان وعائلتهما، إحدى قصص النجاح الملهمة والمشرفة التي تؤكد أن الإعاقة ليست مبرر لعزل ذويها وقمع قدراتهم
ولو لم يقم عادل وزوجته بما قاما به، لكان طفليهما اليوم خارج المدرسة والتعليم ككثير من قرنائهما في العمر والإعاقة الذين هضمت عائلاتهم حقهم وآثرت كبت قدراتهم وإبداعهم واعتقال تطلعاتهم وطموحاتهم.
ختامًا، تقول آلاء في أحد منشوراتها على الفيسبوك: “لم يمنعني فقدان السمع من تطوير مهاراتي بل تجاوزت ذلك، بكل إصرار وتحدي لإعطاء دروس لكل من يعانون من فقدان السمع مثلي.”
خاص : إبراهيم محمد المنيفي /
الأولى على الجمهورية في الثانوية العامة رغم رسوبها في إحدى المواد، بل أنها تُدرٍس طلاب الجامعة تلك المادة التي رسبت بها في الثانوية العامة.
من هذا العنوان الحقيقي الذي يبدو ساخراً ومتناقضاً انطلقت بطلتنا تشق طريقها، وتضع النقاط على الحروف، انطلقت بطلتنا وأثبتت أن مثل هكذا تناقض فج ما كان له أن يكون لولا تصورات مسبقة وقاصرة عن المكفوفين، إلا أن بطلتنا كسرت سجن التصورات المسبقة وأثبتت أن المكفوفين يستطيعون فعل الكثير إذا لم تسجن قدراتهم وإمكانياتهم تصورات المسؤولين وأصحاب القرار.
لم تسلط وسائل الإعلام اليمنية الضوء كثيراً على بطلة قصتنا رغم تفرد قصتها وما تمثله من إلهام، وربما لأن بطلتنا مشغولة بالأفعال وليس لديها رفاهية الوقت لتتكلم كثيراً، فتعالوا نتعرف عليها في السطور التالية:
هي – انتصار حمود العريق.
من مواليد 1994م، مديرية بني مطر جنوب صنعاء.
كفيفة منذ الولادة، فقدت ما كان لديها من بقايا بصرية في التاسعة من عمرها عند ارتطامها بجزء حاد في أحد أبواب المنزل.منذ البداية كانت أسرة انتصار على قدر كبير من المسؤولية والاهتمام، فقد بادر والدها للبحث عن إمكانية العلاج داخل اليمن وخارجها، ولم تستعِد انتصار نور عينيها، إلا أن أسرتها الجميلة المكونة من والدها ووالدتها، وأخواتها الثلاث، وأخوها نصر، كانوا هم عيونها التي لم تخذلها يوماً كما تقول.عاشت انتصار طفولة هادئة ومستقرة لا تخلو من مغامرات الطفولة الشقية والرائعة، ولم تشعر بأن هناك فرق بينها وبين أخواتها أو قريناتها من الفتيات الصغار.
فاطمة العاقل تسرج المصباح.. وانتصار تتّبع الضياء.
في السابعة من العمر عام 2001-م التحقت انتصار بمعهد الشهيد فضل الحلالي التابع لجمعية الأمان للكفيفات التي أسستها الراحلة – فاطمة العاقل،رحمها الله، كأول جمعية ومدرسة للكفيفات في اليمن.وفي المعهد تعلمت انتصار مع زميلاتها الكفيفات مبادئ طريقة برايل التي يستعملها المكفوفون للقراءة والكتابة، بالإضافة للمنهج الدراسي.
وعملاً بفلسفة دمج ذوي الإعاقة في المجتمع، يوزع المعهد طالباته الكفيفات على مدارس التعليم العام القريبة من منازلهن، أما انتصار فقد كانت محظوظة بأختها التي كانت تدرس معها في نفس الصف، ولم تواجه أي مشاكل تُذكر فقد كانت المناهج تطبع بطريقة برايل من جمعية الأمان للكفيفات بحكم استقرار المقرر الدراسي.
كيف انتزعت انتصار المركز الأول على الجمهورية؟
سطع نجم انتصار في مدارس الدمج وكان يُشار إليها بالبنان، إلا أن قرار وزارة التربية والتعليم إعفاء المكفوفين من مادة الرياضيات ابتداءً من الصف السادس فما فوق حرمها لذا المنافسة، وككل المكفوفين حُرمت انتصار حوالي 14% من درجات المعدل العام في شهادة الصف التاسع الأساسي بسبب قسمة مجموع الدرجات على 7، وهو ما يعني أن القسمة تتم حتى على مادة الرياضيات التي أعفت الوزارة منها المكفوفين.تكررت المشكلة في الثانوية، ولكن هذه المرة ليست ثانوية عامة فقط بل أن الوزارة قد رسبت انتصار في مادة الرياضيات.
ذهبت انتصار إلى الوزارة محتجة، وهناك خاضت نضالاً كبيراَ وترافعت باسم مكفوفي اليمن في الثانوية العامة، وبعد قسمة مجموع الدرجات على 7 وهي كل مواد الثالث الثانوي قسم الأدبي عدا الرياضيات كانت المفاجأة، لقد حصلت انتصار العريق بعد اتزان ميزان العدالة على المركز الأول مكرر على مستوى الجمهورية اليمنية، لقد انتصرت انتصار وكان جديرٌ بها ذلك النصر البهيج، وأصبحت أول كفيفة تحقق ذلك المركز، كان ذلك في العام 2012-2013م.
في القمة مرة أخرى.
تترقى انتصار في سلم المجد، وتقرر أن تتخصص في إدارة الأعمال بإحدى أرقى الجامعات في اليمن، وكانت من أوائل المكفوفين الذين خرجوا عن التخصصات التي عُرِفوا بها كالإسلامية، واللغات، وعلم الاجتماع وغيرها.
ذلك الإصرار وتلك الجسارة كان لها ثمن من جهد ومشقة وسهر الليالي الطوال، إذ كانت المناهج مطبوعة بطريقة برايل قليلة جداً، كذلك المناهج المسجلة صوتياً لأنها دخلت تخصص كان تواجد المكفوفين فيه نادراً، وكانت أبرز مشكلة رفض معظم الدكاترة توفير المقررات بصيغة إلكترونية لتقرأها بواسطة البرنامج الناطق على الكمبيوتر أو تقوم بتحويلها إلى طريقة برايل، تقول انتصار: “لقد رفض معظم الدكاترة منحي نسخ إلكترونية خشية الحقوق الفكرية، رغم أنني استعديت أن أوفر أي ضمانات لعدم تسرب تلك النسخ، ما جعلني أسجل المحاضرات ثم أفرغها في المنزل إلى طريقة برايل وكان ذلك الأمر غاية في الإرهاق والتعب”.
في نهاية البكالوريوس وقفت انتصار مكللة بعقود الفل على منصة التكريم، فقد كانت الأولى على دفعتها وعلى مستوى القسم بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
في ذلك اليوم أحمرت الأيدي من التصفيق للكفيفة التي قهرت كل الصعوبات وتحدت ما كان مستحيلاً يوماً ما، وكانت انتصار تهمس في داخلها وتقول: “الأيدي التي امتدت إلي بداية المشوار خيراً من هذه التي تصفق، من أعطاني كتاباً إلكترونياً أثناء دراستي أكرم ممن أهداني عقد الفل اليوم”.
“لن نوظف كفيفة عندنا”
في قمة الانبهار أثناء الحفل، تقدم أحد رجال المال والأعمال عارضاً على انتصار العمل بإحدى شركاته، كيف لا والأذكياء ثروة يتسابق عليها الجميع.
لقد ذهبت انتصار حاملةً مؤهلها المشرف ومعه طموحها في فرصة عمل تناسب تخصصها الذي أحبته بشغف، كان المدير صادقاً في وعده لكن مديرة الحسابات رفضت تماماً أن تعمل كفيفة في إدارتها، وبعد عرقلة استطاعت تلك المديرة أن تحرم انتصار فرصة العمل، لكنها لم تستطع كسر إرادتها.
حينما سألت انتصار متى شعرتي بإعاقتك؟
أجابت بألم: “لم أشعر بإعاقتي من قبل فقد كانت أسرتي نعم الأسرة، والكثير من الصعوبات تخطيتها بفضل الله والكثير من الجهد والتعب، لكنني لن أنسى ما حييت حينما تقدمت للعمل في إحدى الجامعات الخاصة، لن أنسى ذلك الموقف السيئ حينما كنت أقدم ملفي للمسؤولة المختصة وكان رئيس الجامعة يقف خلفي، فأشار للمسؤولة أن تحيلني إليه” تتابع انتصار سرد الموقف: “سألني بسخرية وهو يضغط على مخارج الأحرف: “أّنتي تتوظفي عندنا!، خلي بالك لا يمكن أقبلك عندي حتى متطوعة ولا متدربة، جامعتنا جديدة وتريدي أن يقولوا ما وجدنا غير كفيفة تشتغل عندنا”انصدمت انتصار، وحاولت أن تسجل موقف ترد فيه اعتبارها فقالت بثقة: “على الأقل انظر ملفي”
ينظر باستهتار فيرى!!، الأولى على الجمهورية في الثانوية العامة، الأولى على القسم مع مرتبة الشرف، العديد من الدورات التدريبية في الإدارة، والسكرتاريا التنفيذية، دورات في مجالات مختلفة، يرفع بصره إليها: “طيب تعالي متطوعة شهرين وسنرى”، تنتصر انتصار لكبريائها وترد: “لو قبلتني براتب مليون دولار لا يشرفني العمل لديكم” وتغادر.
بقعة ضوء.
مواقف سلبية كادت أن تستسلم لها انتصار، إلا أنها ذات يوم قررت أن تعيد التجربة في جامعة المستقبل – نذكرها بالاسم لتعميم النماذج الإيجابية والمشرقة، قدمت هناك ملفها واستقبلها المسؤولون بتقدير وترحيب كبير، ووضعوها أمام اختبار لم يكن سهلاً لأنها ستدرس مادة محاسبية تطبيقية. قبلت انتصار التحدي وأثبتت وجودها، تقول لل-MCPD: “كان أمامي في أول محاضرة 180 طالب وطالبة، لقد كان الموقف رهيباً بالفعل”.
تجيد انتصار التعامل مع عدة أنظمة محاسبية، ودرست في الجامعة مادة المبادئ المحاسبية، ومادة نقود وبنوك، ومادة بحث علمي، وأشرفت على عدة أبحاث تخرج.
انتصار قصة طموح لا تنتهي، وإرادة عصية على الانكسار، تفرغت مؤخراً من التدريس وترقت مساعد أمين كلية العلوم الإدارية بالإضافة لعملها سكرتاريا في نفس الكلية بكلما تتطلبه من أعمال، وهي على وشك انهاء رسالة الماجستير في نفس التخصص.
في مطلع التسعينات في مديرية بلاد الروس التابعة لمحافظة صنعاء والتي تُبعد عنها 32 كيلو متراً، كانت فاطمة مجاهد الحاج، الطفلة ذات الاثنا عشر عاماً تشارك صديقاتها اللعب بكل براءة، وفي كل صباح تحمل حقيبتها معهن ذهاباً إلى المدرسة، ولا تخلو رحلة الطريق من بعض مشاكسات الأطفال المعروفة.
ولكن ذات يوم افتقدن الفتيات صديقتهن فاطمة فلم تحضر معهن إلى المدرسة، وتبع اليوم أيام والفتيات يتساءلن “لماذا غابت فاطمة؟ ترى هل تركت المدرسة كالكثير من الفتيات اللواتي يمنعهن أهاليهن من مواصلة التعليم!؟ إنه أمرٌ مؤسف”
في منزل فاطمة كان الأمر مختلف، إن فاطمة طريحة الفراش تعاني الحمى التي تشتد بها أكثر وأكثر.
تجلس أم فاطمة بجوار ابنتها وتضمها إلى صدرها بحنان، وتضع لها بعض الكمادات الباردة، غير أن درجة حرارة جسمها لا تنخفض، فتقف الأم حائرة وتكف عن المحاولة اعتقاداً منها أنها حمى موسمية ولابد أنها ستزول، وما لم تكن قد سمعت بها الأم من قبل هي “الحمى الشوكية” وهذا ما جرى لفاطمة للأسف.
لقد أصيبت فاطمة بحمى شوكية أورثتها إعاقة حركية شديدة، فتوقفت عن التعليم، إذ كيف ستذهب وتعود من المدرسة في قرية بضواحي صنعاء لا تتوفر فيها أدنى مقومات البيئة المناسبة لحركة الكرسي المتحرك، فضلاً عن عدم معرفة الأسرة لكيفية التعامل وماهي حاجات ابنتهم في وضعها الجديد.
فاطمة تستعيد زمام المبادرة.
ليست المشكلة أن تتوقف، المشكلة ألا تستعيد قواك وتواصل المسير، المشكلة ليست في أن يحل بك الظلام، المشكلة أن تستمر تلعنه ولا تبادر حتى لتضيء شمعة.
رغم توقف فاطمة عدة سنوات عن التعليم إلا أنها عادت بقوة وعزيمة كبيرة، فالتحقت بالمدرسة وهي في الخامسة عشر من عمرها، وهي اليوم تدرس في جامعة صنعاء تخصص إدارة أعمال طبية، وتؤكد لل-MCPD أن طموحاتها كبيرة وعالية فتقول: “أطمح أن أواصل الدراسات العليا في تخصصي وأنا واثقة من أني سأصل”.
ومن ناحية أخرى تعد فاطمة الحاج وجهاً معروفاً بين الرياضيات ذوات الإعاقة في اليمن، وتمارس كرة السلة منذ خمس سنوات ضمن نادي تدريبي على نفقة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن.
من رحم الحاجة.. يصنع مشغولاتهن بمهارة.
تسكن فاطمة الحاج في سكن الطالبات التابع للجامعة، وتختلط بالطالبات القادمات من محافظات وبيئات مختلفة للتبادل معهن الخبرات والمهارات المختلفة.
وفي سكن الطالبات يجمع القدر بين فاطمة وأربع طالبات أخريات من ذوات الإعاقة الحركية التي تتفاوت إعاقتهن بين الشديدة والخفيفة، فيتشاركن الهم والقضية سوياً، ويكسرن غربة الأهل بألفة التلاقي عل القواسم المشتركة، قواسم طبيعة الإعاقة، والدراسة، والإعباء المترتبة على ذلك فيقرِرن اللقيام بعمل مشروع مشترك يقيهن ذل الحاجة والعوز، تقول فاطمة لل-MCPD: “قررنا عمل بعض المستلزمات الخاصة بالفتيات من عطور، وبخور، وزباد، كما أننا نقوم بصناعة المباخر وتطريزها، وصناعة أحزمة العسوب اليدوية (العسوب جمع عسيب وهو الحزام الذي يلفه اليمنيون حولهم وفي منتصفه أمام البطن خنجر يسمى الجنبية، وهو من أشهر الملبوسات الشعبية اليمنية)”، وتواصل: “كل ذلك من أجل الاعتماد على أنفسنا في تغطية مصاريفنا من رسوم السكن، والكتب، والتغذية، وغيرها من مصاريف الطالبات في الجامعة”
تقول فاطمة أنها وصديقاتها الأربع لم يستطعن فتح محل خاص بهن أو طرح منتجاتهن في محل، ولا يستطعن الذهاب للسوق بشكل عادي نتيجة كثرة العوائق والحواجز البيئية، ما جعلهن يطرحن منتجاتهن عبر مجموعات في تطبيق الواتساب وهو ما لاقى إقبالاً لا بأس به.
ويتحن للزبونات زيارتهن للسكن الذي يقمن فيه لمشاهدة المنتجات.
تتحدث فاطمة عن أهمية التعاون والتكامل وتؤكد أنها وزميلاتها يتكاملن في إنتاج وصناعة المنتجات ولا يحتجن لمساعدة فتيات أخريات خارج المجموعة.
وعن الإقبال على شراء المنتجات تقول لنا فاطمة: “أنا بالدرجة الأولى طالبة ودراستي هي الأهم، وهذه المنتجات والأشغال مشروع قمنا به حتى نتمكن من مواجهة أعباء ومصاريف الدراسة ولا أنكر أنه صار شغف، لذلك نهتم بجودة المنتج وإرضاء زبوناتنا من الفتيات، أما الإقبال على المنتجات فيختلف: فمن تشتري منا المرة الأولى تعود وتطلب مرة أخرى وربما أخبرت صديقاتها، هذا من جانب ومن جانب آخر تختلف حركة البيع باختلاف الموسم، فمواسم الأعياد لها منتجاتها، ومواسم الأعراس لها منتجاتها وهكذا”.
فاطمة وصديقاتها قصة إلهام وعصامية واعتماد على الذات جدير بها أن تكون نموذجاً يُحتذى، وجدير بمؤسسات ذوي الإعاقة أن تقف إلى جوارهن، وأما المجتمع فحري به أن يشجع مثل هكذا نماذج، فاطمة وصديقاتها لا يحتجن يد لتوقفهن فقد وقفن ويحتجن فقط إلى مساندة.
أما رسالة فاطمة فننقلها حرفياً تقول: “نحن قادرات على الاعتماد على ذواتنا، لا نمد أيدينا لأحد ولا نذل أنفسنا لمخلوق”، وتضيف: “إذا أردتم دعمنا فلا تعطونا مالاً نستهلكه فترة ثم ينتهي، بل ساعدونا لفتح مشاريعنا وتطويرها وعلينا الباقي”.