المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى بمناصرة حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة

رياضة ذوي الإعاقة..
واقع مؤلم يجمّد القدرات ويقلّص الإبداع

رياضة ذوي الإعاقة..واقع مؤلم يجمّد القدرات ويقلّص الإبداع

خاص : مصطفى صالح /

رياضة ذوي الإعاقة، هي رياضة بقواعد تم تصميمها بحيث يمكن أن تمارس من قبل أشخاص ذوي إعاقة جسدية، أو حسية، أو عقلية، وهي رياضة مكيفة بما يتناسب وذوي الإعاقة بمختلف فئاتهم، وكثير منها يتركز على رياضات موجودة وقائمة، ومع ذلك فقد تم إنشاء بعض الألعاب الرياضية خصيصا للأشخاص ذوي الإعاقة، وتقام بطولات محلية وإقليمية ودولية في شتى الألعاب تنظمها اتحادات خاصة برياضة ذوي الإعاقة.

تاريخياً تصنف رياضة ذوي الإعاقة بحسب الفئة التي تمارسها، فهناك ألعاب رياضية خاصة بالمكفوفين، وأخرى خاصة بذوي الإعاقة الحركية والصم وغيرها، كما أن هناك ألعاب مشتركة بين أكثر من فئة مثل: الشطرنج، وشد الحبل، وكل فئة لها تاريخها الخاص، منظماتها والأحداث ورؤيتها للرياضة.

وقد وعى العالم مبكرًا أهمية رياضة ذوي الإعاقة، فمنذ عام 1988 ضمت اللجنة الأولمبية إليها ألعاب رياضة المعاقين – البارالمبية -، وبعدها بعام واحد ضمت اللجنة جميع المرافق الرياضية للرياضيين المعاقين.

وهناك اتحادات ومنافسات دولية لرياضة ذوي الإعاقة، وأشهر تلك الرياضات: ألعاب القوى والسباحة وتنس الطاولة والجودو وكرة السلة وكرة القدم وكرة الجرس والشطرنج.

وكجزء من حال الرياضة بشكل عام في بلادنا، تعاني رياضة ذوي الإعاقة من واقع مزرٍ وغير مشجع تعاظمت حالة الازدراء مع اندلاع الحرب في العام  2015، مع العلم أن بعض الإعاقات لا تملك فرق رياضية دائمة ولا حتى أندية وأماكن للتدريب.

شحة الموارد وغياب الاهتمام

رئيس الاتحاد العام لرياضة المعاقين في صنعاء، الأستاذ عبدربه ناصر حميد، في حديث مع الـ MCPD يصف واقع الرياضة في اليمن بالضعيف جدًا ويعزو ذلك لعدة أسباب أهمها: عدم وجود الوسائل والصالات الرياضية الخاصة بذوي الإعاقة وضعف الدعم المادي ، إضافة إلى غياب الاهتمام من الجهات المسؤولة عن رياضة المعاقين.

ويقول عبدربه: “إن الاتحاد مع هذا الواقع المؤلم يقدم الشيء البسيط من خلال إقامة بطولات موسمية لا تفي بالغرض”، معترفًا بتقصير الاتحاد للأسباب آنفة الذكر.

وأشار رئيس الاتحاد إلى أن لديهم خططا وبرامج سنوية، لكن لا يتم تنفيذها بحسب ما يخططون له والسبب يعود إلى الصعوبات المذكورة سابقًا، حسب قوله.

اللاعبة بلقيس طارش الشرجبي، من ذوي الإعاقة الحركية، تخصص دفع الجلة F57، من جانبها تقول لـ MCPD إنهم لا يمتلكون صالة رياضية للتدريب واللعب، وتشكو غياب الدعم والتشجيع من الجهات الحكومية المسؤولة.

ويشاركهما الرأي ليبان الجماعي، وهو مدرب ألعاب القوى لذوي الإعاقة، إذ يقول: “إن واقع رياضة ذوي الإعاقة في اليمن، محزن للغاية، ولا يوجد اهتمام حقيقي ولا بنية تحتية، علاوة على تدني ميزانية هذه الرياضة بشكل كبير جدًا.”

أما عبدالرحمن الحنق، وهو لاعب كرة الجرس من ذوي الإعاقة البصرية، في مركز النور وجمعية المكفوفين وسبق أن شارك في بطولة دولية، فيتطرق إلى عدم وجود أندية خاصة لتدريب اللاعبين من جميع فئات الإعاقة في اليمن وبشكل مستمر.

ويشكو في حديثه للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة MCPD ضعف التدريب والتأهيل والاختيار العشوائي -حسب وصفه- للاعبين أثناء المشاركة في البطولات الدولية، علاوة على عدم وجود مدربين متخصصين في الألعاب الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة.

مسار مُعطّل وآمال معلقة

يقول عبدربه حميد، إن لدى الاتحاد شراكة مع البارالمبية الآسيوية، مشيرًا إلى أن آخر بطولة شارك فيها الاتحاد كانت في البحرين خلال الفترة 18 – 26 فبراير/2022، وحصل على ذهبيتين وفضيتين وبرونزية في العاب القوى وكرة الريشة، لافتًا إلى مشاركة لاعبي الاتحاد خلال الفترة من 16 أغسطس إلى 6 سبتمبر 2022 في أولمبياد طوكيو.

 وأضاف رئيس الاتحاد أن لديهم رياضيين من ذوي الإعاقة يلعبون كرة السلة بعدد إجمالي 54 من الذكور والإناث، منهم 30 لاعبة و24 لاعبًا، وهم يتدربون على مدار العام بدعم من الصليب الأحمر الدولي.

ورغم كل المعوقات والعقبات يذكر عبد ربه أن اليمن حققت فوزًا في سبع بطولات عربية في كل من مصر والأردن خلال الفترة 2007 – 2014، بفضيتين وبرونزية وبقية البطولات برونزيات في رياضة تنس الطاولة.

إلى ذلك، قال  المدرب ليبان الجماعي، في حديث مع الـ MCPD: “نقوم حاليا بوضع البرامج التدريبية للرياضيين من ذوي الإعاقة وكذلك تحفيزهم على ممارسة الرياضة عموماً وألعاب القوى خصوصاً وذلك بحسب الظروف والإمكانيات المتوفرة كما نقوم بانتقاء العناصر المميزة منهم و تجهيزهم للمشاركة في المحافل الدولية القادمة”وأوضح المدرب الجماعي أن ألعاب القوى لذوي الإعاقة، تحتوي على 3 فعاليات رئيسية وهي :

1) فعاليات الجري:- وتحتوي على سباقات (١٠٠م،٢٠٠م،٤٠٠م،٨٠٠ ١٥٠٠،٥٠٠٠م)

 2) فعاليات القفز:- وتحتوي على (القفز العالي والقفز الطويل)

 3) فعاليات الرمي:- وتحتوي على (دفع الجلة، رمي القرص، رمي الرمح، رمي الصولجان) وهناك تصنيفات متعددة بحسب نوع الإعاقة لكل فعالية وذلك لضمان منافسة عادلة بين الرياضيين”

ويأمل الجماعي أن تتظافر الجهود الحكومية والخاصة لدعم رياضة ذوي الإعاقة وكذا التوعية الإعلامية بأهميتها الكبيرة للمعاقين صحيا وبدنيا وبما يساهم في تحقيق الدمج في المجتمع. وعبّر عن أمنياته بزيادة الاهتمام برياضة الأشخاص ذوي الإعاقة ليتمكنوا من تحقيق طموحاتهم ورفع علم اليمن في كل المحافل الدولية.

أما لاعب كرة هدف المكفوفين، محمد عبدالقادر الكاف، فقد أبدى أمله في إجراء التدريبات المتواصلة للاعبين وإقامة البطولات المحلية، فيما تطمح اللاعبة بلقيس طارش الشرجبي التي سبق وأن شاركت في دورة الالعاب البارالمبية الثانية عشر في طوكيو 2020، تطمح شخصيًا إلى تحقيق ميدالية دولية لليمن.

وتبقى التربية الرياضية من أفضل الوسائل لتطوير قدرات ذوي الإعاقة، من حيث المشاركة الفعليّة في الأنشطة المختلفة. والتربية الرياضية برسالتها السامية وفلسفتها الحديثة تعمل على الاعتناء بالفرد وإذكاء العقل والجسم كوحدة متكاملة.

ومن هنا يُمكن تأهيل ذوي الإعاقة ضمن خطوات علمية سليمة، من حيث استغلال قدراتهم والتركيز عليها. وبالتالي تأهيلهم ودمجهم مع المجتمع بما يضمن إتاحة الفرصة أمامهم للإبداع والإنتاج، وهذا الهدف النبيل والحق المشروع بحاجة إلى إيمان ذوي الإعاقة أنفسهم بأهميته وتوعية المجتمع بضرورته ودفع المؤسسات الحكومية والخاصة والجهات الخارجية ذات العلاقة إلى مضاعفة الاهتمام لتحقيقه.

صورة فتياة من ذوات الإاعقة الحركية من إحدى البطولات
صورة فتيات من ذوات الإعاقة الحركية من إحدى البطولات

ذوي الإعاقة في الأفلام والمسلسلات

ذوي الإعاقة في الأفلام والمسلسلات

Forrest Gump

فرض ذوو الإعاقة ومؤسساتهم قضايا الإعاقة بقوة على المشهد النقدي للدراما، فأصبحت صورة ذوي الإعاقة في الدراما تحت المجهر من قبل ذوي الإعاقة ومناصريهم والنقاد، فرأينا مؤخراً في عالمنا العربي واليمن حضوراً إيجابياً لذوي الإعاقة كأشخاص وقضايا مقابل الحضور السلبي والنمطي الذي رغم وجوده الكبير إلا أنه يتقلص بفعل الوعي المتزايد، وفرض قضايا الإعاقة حقوقياً على النقد وتواجد ذوي الإعاقة الواضح في وسائل الإعلام الجديد على وجه الخصوص.

وفي هذه السلسلة سنستعرض معكم كل أسبوع فيلم أو مسلسل تحدث عن ذوي الإعاقة، وبالتأكيد سنتحدث عن النماذج الإيجابية والمشرقة أولاً

هو فيلم أمريكي مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب “ونستون جرووم”، وتدور أحداثه عن “فورست جامب” ومراحل مختلفة من عمره، بدايةً من طفولته التي كانت قدماه مصابةً بتقوس جعلها توضع في دعامات كانت مصدر سخرية من الأطفال المحيطين به، وعلاقته المميزة بوالدته التي غرزت فيه أفكار ومعتقدات كونت شخصيته المميزة والفريدة، ويستطيع “جامب” التخلي عن الدعامات بل ويصبح عداءً سريع بشكل استثنائي

ولكن هذه لم تكن كل مشاكله، فلقد كان لديه قدرات عقلية أقل من المتوسطة ورغم ذلك استطاع أن يلتحق بالجامعة، بل وينضم للخدمة العسكرية ويخوض الحرب في فيتنام، وبعد انتهاء فترة خدمته يبدأ في الخروج للحياة العملية، ويستطيع بتوفيق يثير الإعجاب أن يحقق ثروةً لا بأس بها، ليصبح مثالًا وقدوةً في حياة الكثيرين.

الفيلم أمريكي من إنتاج عام 1994، إخراج”روبرت زيميكس”، وبطولة “توم هانكس”، و “روبين رايت”، و “سالي فيلد”، و “جاري سينيز”.

حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل مؤثرات بصرية، وأفضل مونتاج، وأفضل ممثل لـ”توم هانكس”.

-هل شاهدتم هذا الفيلم من قبل؟، لمشاهدة الفيلم مترجم باللغة العربية من خلال هذا الرابط (Forrest Gump)

نلتقيكم السبت القادم في مثل هذا الموعد فانتظرونا.

شؤون البردوني الثقافية.. شاتو بريان والشاعر الذي رهنته زوجته في ثمن الغداء (6-6)

شؤون البردوني الثقافية.. شاتو بريان والشاعر الذي رهنته زوجته في ثمن الغداء (6-6)

خاص : علوان الجيلاني /

تحدث الأستاذ الشاعر –علوان الجيلاني، في المقال السابق عن إثنتين من أهم السمات الأسلوبية عند الراحل البردوني رحمه الله “الاقتباس والاستبدال”، وفي هذا المقال وهو الأخير للكاتب في هذه السلسلة يُعرج على أهم أساليب البردوني الكتابية وإبداعيتها، ويختتم المقال بطرائف أدبية في حياة البردوني جاءت في شؤونه الثقافية حيث يقول:

لا بد من الإشارة هنا إلى مجموعة سمات في كتابات البردوني، ربما يعود إليها معظم شغف الناس -نخبة وعاديين – به:

 أولاها: طرائق تفسيره للأحداث والمواقف.

في “طوفان على ريش الثواني” كتب يقول “ذات مرة كتب خليل جلال، أهوج نقد لرواية جبرا إبراهيم “السفينة”، حتى عثرنا عليها بعد أن أخذنا منها موقفا بأنها رواية رديئة، فقلنا لابد أن نرى الفرق بين خالق الأدب وناقده، فدخلنا الرواية وإذا هي من بديعات الفن الروائي، وإن الناقد كان بعيداً عن معرفة مواطن الإجادة بعد المشرقين، ومثل هذا مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، إذ وجدنا من يتضاحك عليها هازئاً حتى كاد أن يزهدنا، وكنا قد عرفنا أن بعض الناس عيابون، فلا نقبل العيب؛ بل نحب النقد الغواص، فقرأنا مسرحية توفيق الحكيم، وكادت أن تفوتنا بقدرة العيابين على رد النفوس الضعيفة عن مرادها، وهكذا كان النقد في الأربعينيات والخمسينيات يحاول خلق المعائب إن لم يجدها، فإن وجدها أضاف إلى العيب عيوباً”

ثانيتها: استدعاء الاشباه والنظائر من الماضي والحاضر.

فهو على سبيل المثال في “عطرية التاريخ” يعرض مقولة في “محاورات أفلاطون”، ثم يستدعي أشباهها ونظائرها:

“قال السفسطائيون: القدرة غير العظمة” ثم يعقب: فكم قتل بنو إسرائيل من أنبياء؟ وكان في الأنبياء قابلية الموت من أول هجمة. وهذا بدوره جعله يستحضر رأياً مشابها في حادثة تعد من النظائر القوية:

“وهذه المسألة عالجها ابن خلدون في مقدمته، حين قارن بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية”

وشبيه بذلك مقارناته بين حديث ميكافيلي في كتابه “الأمير” عن القرون الخوالي وما حدث فيها واستشهاده بالضعفاء الذين تقووا، وبالأقوياء الذين ضعفوا” بحديث ابن خلدون في مقدمته عن اقتران “القوة بالشوكة العصبية العشائرية، وقوة شوكة القبيلة، وحتى تبلغ الدولة الترف يصيبها الاسترخاء فتقوم مكانها قبيلة موصولة العرى بالخشونة، والرياضة على المشقة فالأشق”

وتتجلى لمحات البردوني الذكية في مقارناته المدهشة بين الجواهري ونزار قباني في مقال عنوانه “مقارنة بين شاعرين”، فنزار بارع في استدعاء الرموز التاريخية كما فعل حين استدعى “ميسون بنت بحدل الكلبية في قصيدته “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” وهو يمزج الغزل باستثارة الحرب حتى لا تدري أهو في مرقص غوان أم في خندق حرب. أما الجواهري فلا يعتمد على استدعاء الرموز التاريخية، وإنما يطل من شرفة علم الكلام أو باب معرفة الله كما فعل في قصيدة “المحرقة”.

والجواهري لا يختلف شعره الا في مراحل التطور، وليس في مراحل التغير، أما نزار فظل يتطور منه إليه، بامتلاكه ناصية اللغة، وانقياده لرفيف الفساتين والشيلان.

للجواهري منهج فكري لزيم على توالي فصول شعره، فهو يطرح فكره في احتشاد الجماهير، وفي التهاب العيون حباً، ولنزار منهج لغوي ديباجي فشعره تنم عنه روائح مفرداته وتراكيبه. 

نزار يعتمد على الرمز التحريري ويحول الكلام إلى حدائق غنّاء، والجواهري يتكئ على جحيم النضال ويكتب شعراً يتمنهج الفكر، وامتلاك كلٍّ منهما أسلوباً من علامة فحولتهما الشعرية، وأصالتهما العريقة.

وتشمل مقارناته بين نزار والجواهري الأوطان والحواضن والمرجعيات الثقافية. فنزار شامي موصول الثقافة بباريس والعدوة تحرراً ونضالاً، والجواهري عراقي بدوي يتملى جلال الوجود من جلال النجف وعلي وآله.

قصيدة الجواهري بدوية على ظهر جمل تقبّلها الشمس من كل الجهات، وقصيدة نزار باريسية تتأرج بعطور كريستيان ديور وتأكل المتبّل والحمص.

أما الأجمل في المقارنة فهي لغة البردوني الواصفة فهو يختم سيمفونيته البديعة على هذا النحو:

“هناك قامت الفروق بين نزار والجواهري، وأصح الموازنات هي التي تقوم على نقيضين متفقين مختلفين، أو بين ندين كلٌّ منهما يصلى إلى قبلة أخرى، فما الذي جمع البعدين؟ إنه الموت وحده، الذي الحق نزار بالجواهري كنعش واحد تحمله القلوب النجومية، والشعر الذي يتهازج كما يتهازج نسيم الأسحار، وآيات القنوت”.

ثالثتها: مقترباته من النصوص الشعرية وأسلوبه في قراءتها واستكناه دخائلها.

في “الميلاد الثاني لنزار قباني” قال إن “نزار لم يلمّح بشرارة فجور، ولا بروائح مخدع جمال، بل قال ما يمكن مشاهدته عياناً:

أخذ الكبريت وأشعل لي ومضى كالصيف المرتحل

رجل يمنحني شعلته   ما أحلى رائحة الرجل

فكان يصدر من قراءة الجمال في وجه المليحة، أو من كؤوس الزهر، أو من شفاه القرنفل، أو من أغنيات الياسمين، وكان تغنيه بالجمال المبسوط للناس لكي يعرفوا أسراره، كما نعرف نكهة البرتقال من الصفرة البنفسجية، والحمرة القرمزية أو الشفقية، والخضرة التي تلمُّ لوامع حسنها من قطرات الندى وأشعة الشمس.

لماذا خضرة البساتين أجمل من فواتن الحسان؟ لأن تلك جاءت من ذرة بشرية، وتلك نبتت من ذرة التراب استعرضتها الشمس والقمر وعيون النجوم الثواقب.

لهذا أعطى نزار الفلسفة الجمالية نصف ملكته الشعرية، ونصف تخيّله الجنسي، ونصف حسّه بالذكورة”

رابعتها: الشعرية العالية التي تتزين بها نصوصه حين يتسلطن أو حين يحزن ويتشجن “

وكان هذان البيتان أحلى تتويج لعمر صداقة، أو لعمر قلبين امتلآ بأنقى العواطف كما لو كان كل واحد هو الآخر، وأصبح أنس المستشهد، فيكفي ديباجة الرسالة ألَّا تطول، لأن النص قد قال ما فاض به القلب”

وهناك سمة يعرفها قراء البردوني جيداً هي سمة الاستطراد، وغالباً ما يرتبط الاستطراد بأخذ المواضيع بأطراف بعض حين تكثر شجون الكلام وتتعدد أغراضه، لكن الاستطراد ينتج أحياناً عن استدعاء الأشباه والنظائر..

وهذا يحدث دائماً في كتاباته وأمثلته في الكتاب كثيرة نذكر منها ما فعله في مقال “الميلاد الثاني للشاعر نزار قباني”، فحديثه عن تحول نزار من شاعر المرأة إلى شاعر الأمة، استدعى ذكر ممهدات ذلك عند سابقيه من الشعراء الذين كتبوا “الشعر الهادف” وحولوا الهجاء من غرضه القديم وهو تتبع معيب المهجوّ إلى نضال ضد أعداء الوطن، كما روضوا المديح فنقلوه من تملق الملوك وذوي اليسار إلى الزعماء الوطنيين الصادقين، وإلى المناضلين في كل خندق. معتبراً أن أحمد شوقي يعد نموذجاً سابقاً للتحول الذي وسّعَهُ نزار، لكنه ما أن استدعى تجربة أحمد شوقي حتى استطرد في الحديث عنه وعن مسرحياته، وعن أشباهه ونظائره، وعن تطور الشعر من بعده وسطر في ذلك كلاماً طويلاً قبل أن يعود إلى نزار.

و من السمات في الكتاب وهي سمة مألوفة في كتابات البردوني عامة، الافتتاحيات التي تجمع بين التفلسف وشعرية اللغة كقوله في مطلع “بدايات متشابهات” لشدة حساسية هذا الزمن، أو لضياع أحاسيسه، تبدَّى أصمَّ أعمى لا يرى ولا يحس، ولا يتصور ولا يهجس، لأن المستحيلات قد أمكَنت ولو عند البعض..فلا يهزه من قراراته إلا الأحداث الخارقة التي تترتب على خرقها خروقات تُغير جوانبَ خفيةً وواضحةً من جوانب الحياة المعيشية والثقافية، وتمسه شخصياً أو تمس الموصول بهم.

كان هناك ما يسمى “التغاضي”، وكان ما يسمى “عدم الاكتراث”.. وهذا صحيح عن ثقة وليس عن ضياع، لكن السبب الآن مختلف لأن الغيبيات اتضحت والإخباريات تكشفت للعيان..فلم يعد الغريب غريباً، إلا إذا أحدث انفجاراً في الأزياء والألوان والأشكال، بل في الرغيف اليومي، وفي فنجان القهوة الصباحي”.

كتاب البردوني حافل باللمحات الذكية والطرائف التي تفجرها المفارقات، وفي الجزء الثاني من “رحلة على الورق” يكثف بعمق مآثر الكاتب الفرنسي الشهير “دي شاتوبريان” بوصفه واحداً من عظماء الكتاب الفرنسيين، فهو كما يصفه ” يطرح أفكاراً في قوالب من خطرات القلب، وهجسات العين، وحديث الزهرة إلى الزهرة، ونجوى قطرات الندى إلى شفاه الزهور.لأن (شاتو بريان) شاعر عظيم، لكنه كان في زمن استرق منه عظمته، انتهازاً لغير العظمة “، لكن البردوني وبعمق مماثل يكثف مثالب شخصية “شاتو بريان” الإنسانية، من خلال إساءته إلى العرب، الذين اعتبرهم ” دود يزحف على الأرض ” قال البردوني معلقاً ” وكأن (الدود) لا يستحق بنانة من الأرض يدب عليها، وهذا هو الغرور الفارغ، وسوء النظرة إلى الناس”

أما قول شا توبريان “: “طفت بمصر، ضفافاً وأودية ومدائن وقرى، فما رأيت إلا مرضى يتهالكون على مرضى”. وهذه ملاحظة ممكنة، لكن الملاحظة المستحيلة لفظت نفسها من شفتيه: “فكل مصري ومصرية مرضى بالسفلس”.

فقد علق البردوني عليه مستغرباً: “فهل كان هذا المستشرق المستطلع إلى هذا الحد من السقوط في(العورات)، لأن السفلس لا يقع إلا فيها أو على حوافها. وكيف أمكن أن يرى عورة شعب من عشرين مليوناً، آنذاك؟”

و من تقابل عظمة شاتوبريان وسقوطه معاً تفجر موقف ضاحك التقطه الروائي السوري زكريا ثامر أروع التقاط، فقد كان البردوني وثامر مع مجموعة من أهل الأدب والفن في بيروت للمشاركة في الأسبوع الثقافي اللبناني، “فقال الشيخ عبد الله العلايلي  “أنتم اليوم ضيوفي على أشهر مطعم يجيد طهي الشاتو بريان..” وكنا كلنا نعرف أن (شاتو بريان) مفكر وفنان فرنسي، ولعل التسمية انتزعت منه..

ومن سوء حظنا وحظه كان المطعم قليل العمال، ولعل أمهرهم كان غائباً في عطلة مناسَبَة، ولكن لم يسع مدير المطعم إلا أن يرحب بنا.. وكان في المطعم الشاعر أحمد الصافي النجفي، وهو يرتعش تحت الثمانين، في شملته، مجرد جلد على عظم. وهكذا كان الشاتو بريان الذي لاكته أسناننا كلحوم الجَمَل، تغري روائحه، وتنفِّر صعوبة مضغه، أو قرضه. فقال زكريا تامر للشيخ عبدالله العلايلي: “دعوتنا على شاتو بريان، فإذا بهم يقدمون لنا أحمد الصافي النجفي”..وكانت تلك أبدع نكتة، لأن (شاتو بريان) كان ممتلئاً سميناً، على حين كان أحمد الصافي النجفي جلداً على عظام..فما أسوأ هذا التطابق المتعاكس.. ولعله إحدى سيئات (شاتو بريان) في رأيه عن المشرق العربي وإنسان ابن النيل”

أما أجمل طرائف البردوني في هذا الكتاب فهي تلك التي رواها في فصل “أزمنة الثقافة .. زمان واحد” فقد ذهب مع زوجته فتحية الجرافي لتناول الغداء في مطعم باريسي، وكان على زوجته ان تتركه وحيدا في المطعم ريثما تذهب هي إلى مصرف قريب لغرض تبديل النقود التي معها من الدولار إلى الفرنك. أثناء غيابها تعرف عليه ثلاثة من الشبان العرب وانهمكوا في الحديث معه عن اللغة العربية ومشكلاتها، وحين عادت زوجته جلست غير بعيد منهم ريثما يكمل حديثه مع الشبان الثلاثة. وفي اليوم الثاني خرجت زوجته إلى الشارع ثم عادت وفي يدها صحيفة على إحدى صفحاتها صورتهما وقد كتب تحتها “هذا الشاعر رهنته زوجته في ثمن الغداء”.

شؤون البردوني الثقافية.. الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني (5-6)

شؤون البردوني الثقافية.. الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني (5-6)

خاص : علوان الجيلاني /

أن البردوني في سائر كتبه حين يقتبس رأياً فإنه في الغالب لا يورده بلفظه وإنما يعيد صياغته بلغته هو وأسلوبه، فعندما يملي على كاتبه: قال الجاحظ ” إننا تعلمنا الأدب لكي نعرفه قبل أن نصفه، لأن من الآداب ما يعرف ولا يوصف، ومنها ما يوصف ولا يعرف، وأحسن المرائي الذهنية التي يمتزج فيها رهافة حس الكاتب فتفيض المادة المكتوبة سماءً حملت نجوماً جديدة”

فإن الكلام بكل تأكيد لم يرد عند الجاحظ بنصه، وإنما هو صياغة البردوني لأقوال تناثرت في كتب الجاحظ، ويصعب حصرها من مثل قوله: ” ولما قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصرت إليه وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من يرتضى عقله ويصدّق خبره خبّرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة، فقلنا له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة”، وكذلك اقتباسه عن غاندي والأفغاني مثلاً في “مصيف الخمسينيات، أو ما أورده كمقتبس عن رأي طه حسين في المهجريين وأشعارهم تحت عنوان “تاريخ فنون”

فهو ليس كلام طه حسين بنصه، وإنما هو ترجمة مكثفة لمجمل آراء طه حسين في ما كتبه عنهم، خاصة ما كتبه عن ديوان “الجدوال” لإيليا أبو ماضي، وما كتبه عن ملحمة فوزي معلوف “على بساط الريح”، ومثل ذلك ما اقتبسه عن رد أبي العلاء حول كتابه ” الفصول والغايات”، إذ قالوا لأبي العلاء: إن هذا الكتاب غير حلو الطعم، وثقيل على اللسان، فلو يسرت لرأيت، فقال أبو العلاء ” اصقلوه في محاريبكم لكي يصبح ميسوراً أو غير معسور”، أما النص الذي تذكره الروايات فهو “أن بعض الأدباء قال له: إن كتاب الفصول والغايات جيد، إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون”

وفي مادة عنوانها “جرادة بين فنين” يناقش آراء الشاعر والمؤرخ الأدبي محمد سعيد جرادة في شعر التفعيلة، ويجره استدعاء قصيدة الشاعر أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” إلى ذكر قصة المرأة الأسطورية وإنذارها قومها حين غزاهم التبع اليماني حسان، وكان عسكره قد انتزعوا الأشجار وحملوه في محاولة لتضليل عينها، إذا كانت –كما تقول لأسطورة- ترى على بعد ثلاثة أيام، وقد روت كتب الأدب العربي صيغة إنذارها قومها بصيغ مختلفة، لكن مؤداها واحد. جاء في “العقد الفريد” لابن عبد ربه ” ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم”، وجاء في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني “قال قومها: ما ترين يا زرقاء؟.

فقالت : أرى شجرا يسير” وجاء في “آثار البلاد وأخبار العباد” للقزويني ” نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حِمْيَر”

لكن رواية البردوني لقول الزرقاء تختلف – فرغم موافقتها للروايات التاريخية من حيث المعنى إلا أن فيها زيادات واختلافاً في الصياغة جعلتها تبدو وكأنها وردت في حوار من مسلسل تاريخي كُتب بلغة من نسق بالغ العلو ” انظروا، إن تحت الأشجار صفوفاً تتحرك غير مسرعة، من منكم شاهد شعباً من الشعاب يُقبل إليه بأشجاره وأحجاره؟”  لقد ترجم البردوني كلام زرقاء اليمامة إلى لغته هو، فتبدى في عبارات شعرية بارعة الصياغة باذخة التخييل. وهكذا كانت لغة البردوني العظيمة تقوم معظم الوقت بتحويل ترجمة المعنى إلى ضرب من الجمال يغرينا بالبحث عن المقتبس عنه وقراءته.

لكنه أحيانا يقتبس الكلام منقولا بحرفه كما فعل في مقالته “ذكرى الأفغاني” فقد نصص أربعة عشر سطراً من مقالة الأفغاني “البيان في الانجليز والأفغان” بحذافيرها، ولعله فعل ذلك كونه يريد أن يعرف القارئ بالأفغاني فكراً وأسلوب كتابة، إذ جاء تناوله للأفغاني في سياق عودة الضجيج المشكك حوله عام 1996م، بعد أن تخافت أواره الذي أحدثته كتابات نشرها المفكر لويس عوض تحت عنوان “الإيراني الغامض في مصر: جمال الدين الأفغاني” بين نهاية 1983- وبداية 1984م. وقد اقتبس البردوني تلك الفقرات بنصها من المقال لأنها –كما يقول- “ترينا الأفغاني المثقف المعمور بالإنسان، بغض النظر عن موطنه وملته ونحلته”

على أن من أكثر ما يلفت المتابع الحصيف لكتابات البردوني هو الاستبدالان التي تقدمها ذاكرته لما نسيته من محفوظاتها الغزيرة، وهي سمة تظهر فيما كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته. وكنا ننبهه عليها فيضحك متندراً بذاكرته ومبرراً لها: لقد تقدم العمر وتأخرت الصحة.

وكانت آلية الاستبدال في استشهاداته الشعرية تقوم في أكثرها على استبدال كلمة بكلمة، كأن يملي “فَبَلّغي” بدلاً من “فعلّمي”:

في قول جميل بثينة:

فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي    نسيم الصبا يا بثن كيف أقول

لكن ذاكرته قد تستبدل أحياناً أكثر من كلمة في النص كما فعل وهو يملي هجاء أحمد شوقي للزعيم أحمد عرابي:

صَغَار في الذهاب وفي الإياب   أهذا كل شأنك يا عرابي؟

فقد استبدلت ذاكرة البردوني كلمتين في صدر البيت وعجزه فجاء هكذا:

شنار في الذهاب وفي الإياب   أهذا كل دأبك يا عرابي؟

وهو استبدال لم يخل بالمعنى؛ بل وافقه تماماً.

كذلك استبدالاته في البيت الذي اشتهر في كتب البلاغة بوصفه نموذجاً من نماذج حسن التعليل:

ما زلزلت مصر من كيد ألم بها    لكنها رقصت من عدلكم طربا

فقد استبدلت ذاكرت البردوني أربع كلمات فيه، وغيرت القافية من باء مفتوحة إلى باء مكسورة، فجاء البيت هكذا:

ما زلزلت مصر من شر أريد بها   لكنها رقصت من شدّة الطرب

أما أكثر وأطرف ما وجدت له في هذا الكتاب فهو استبدالات ذاكرته في إملاء أبيات تاج الدولة الصقلي:

رأتــنــي وقــد شـبـهـت بـالورد خـدهـا فــتــاهـت وقـالتـ: قـاس خـديَ بـالورد

كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب البان يشبهه قدي

وحق صفا ماء النعيم بوجنتي … وحسن الجبين الصلت والفاحم الجعد

لئن عاد للتشبيه يوماً حرمته … لذيذ الكرى، لا بل أذوقه فقدي

إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي

فقد أملت ذاكرة البردوني النص هكذا:

كما قال: إن الأقحوان كمبسمي … وإن قضيب الرّند يشبهه قدي

وأن ضياء الصبح وجهي وللدجى   حنين إلى المسك الذي زانه جعدي

وأن عمود الصبح يشبه قامتي    وأن ورود الشام يفتنها وردي

إذا كان هذا في البساتين عنده … فقولوا له: لم جاء يطلبه عندي

فما عدا كلمة “جعدي” استبدلت ذاكرة البردوني البيتين الثاني والثالث بكاملهما، وكان استبداله بطبيعة الحال أجمل وأحلى، كما أنه جاء مطبوعأ بأسلوب البردوني وطريقته في بناء البيت الشعري وهو أسلوب أكثر دربة وأعلى تجلياً.

وثمة استبدال آخر لا يقل غرابة ففي موضوع ” الثقافة تحت القنابل والنجوم” يقوده سياق مناقشته للحالة اللبنانية إلى استدعاء مقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” لمخيائيل نعيمة وهي القصيدة المحورية في إبداع الكاتب اللبناني الشهير إلى جانب قصيدة أخرى هي قصيدة “الطمأنينة” التي مطلعها:

سقف بيتي حديد  ركن بيتي حجر

فاعصفي يا رياح  وانتحب يا شجر

والقصيدتان معاً من القصائد الذائعة الصيت في تاريخ الشعر العربي المعاصر، كما أنهما بكل تأكيد من القصائد القوية الحضور في تلقيات البردوني الأولى. لكن ذاكرته وهي تستدعي ذلك المقتطف من قصيدة “النهر المتجمد” قامت باستحضار المعنى فحسب، أما الفاظ النص فاستبدلتها بشكل يكاد يكون كاملاً، وهكذا كان النص في أصله عند نعيمة:

يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟

أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟

بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائقِ والزهور

تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور

أما ذاكرة البردوني فقد استحضرته على هذا النحو:

يا نهر مالك لا تقول

وأنت ينبوع السيول

فمتى ستنجاب الفصول

وتملأ الدنيا خرير

يسعى كأسراب الطيور

وهذا النوع من الاستبدالان لا يتفهم حيثيته، ويتصور إمكان حدوثه إلا من يعرفون ما أدخلته ذواكر الرواة على الشعر الجاهلي من استبدالان، كذلك لن يستغربه من سبق له أن بذل أدنى جهد في توثيق التراث الشفاهي، فهؤلاء جميعاً يعرفون أن الذاكرة خؤون، وأنها تستبدل ولا تبالي.

يكمل معكم الكاتب الحديث عن أهم أساليب البردوني الأدبية في المقال القادم، وسيكون الأخير، حيث سيختتمه بطرائف أدبية من حياة البردوني. رحمه الله.

شؤون البردوني الثقافية.. الإذاعة في حياة البردوني كمستمع (4-6)

شؤون البردوني الثقافية.. الإذاعة في حياة البردوني كمستمع (4-6)

خاص : علوان الجيلاني /

لقد التحق الأستاذ الراحل عبد الله البردوني بالإذاعة مبكراً، بل وكان من أهم الذين رسموا ملامحها التحريرية عقب ثورة 26 سبتمبر أيلول 1962 سواءً من خلال مناصبه الإدارية أو من خلال البرامج التي كتبها للإذاعة، إلا أن الأستاذ والشاعر الكبير –علوان الجيلاني، يتحدث في هذا المقال عن البردوني كمستمع للإذاعة، وكيف رصد الدور الثقافي، والتنافس البناء بين بعض الإذاعات العربية حيث يقول:

تحضر أهمية الإذاعة في حياة البردوني بوصفها نافذة معرفية بالغة الخطورة، ولأنها كانت بالغة الأهمية له على وجه الخصوص، فهي قارئه حين يغيب من يقرأون له، هناك أكثر من تناوله يناقش فيها حوارات الإذاعة وبرامجها الثقافية بوصفها مصدرا مهماً من مصادر متابعته للشأن الثقافي، وارتباطاته الشرطية بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن ذلك ما كتبه تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” عن إذاعة القاهرة وبرامج مأمون أبو شوشة وسامية صادق. ونحن في الحقيقة نقرأ في هذا الموضوع سرداً استقصائياً مذهلاً لتطور البرامج الثقافية والفنية في الإذاعات العربية من نهاية خمسينيات القرن العشرين إلى نهاية تسعينياته.وهذه الكتابة ليست الصدى الوحيد لبرامج الإذاعة في هذا الكتاب، فهناك مواد أخر مثل ” حفريات على أخاديد”.

ومن هذا المشرب مقالة عنوانها “بدايات متشابهات” تتموضع التنافس الفني بين مصر وسوريا، والبردوني إذ يتتبع أطوار التنافس منذ منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر هي الرائد الذي لا ينافس، يقوم بكشف الكثير من أسرار تفوق الدراما السورية في التسعينيات. وليس خافياً في مثل هذه التناولات تعمده تنوير القارئ بمقدار تعمده جرجرته إلى تحويل التلقيات التي صار الناس يتعاملون معها بوصفها مجرد تسليات إلى اشتباك معرفي حقيقي وناجح.

والحقيقة أن هذه استراتيجية تتراءى في أكثر ما يكتبه. فهو لا يداري رغبته في جرجرة القارىء إلى مزيد من الاطلاع والبحث، يفعل ذلك –خاصة- حين يتقصّد الكتابة على طريقة مثاقفة العارفين، إذ يعطي القارئ تلميحاً يمثل طرف الخيط ثم يدعه لفضوله؛ من ذلك على سبيل المثال؛ قوله يناقش عاتكة الخزرجي حول العباس بن الأحنف في مادة ” فن الرسائل الأدبية” “فلم تصل إليه سن العشق والغزل إلا وقد بلغ يدب على العصا، كما قال جرير. ثم لا يذكر قول جرير، لكنه يسلم الأمر لرغبة القارئ في الاستكمال والاستزادة. ولا بد بعد ذلك أن يبحث القارئ في الكتب، ليعرف أن المقصود هو قول جرير:

وتقولُ بَوْزَعُ: قدْ دببتَ على العصا. هَلاّ هَزئْتِ بغَيرنَا يا بَوْزَعُ.

ونبحر معكم في المقال القادم حول بعض السمات الأسلوبية للأستاذ البردوني، وكيف كان يقتبس ويستدعي بل ويستبدل؟ انتظرونا في المقال القادم بعنوان:

“الاقتباس، والاستبدال في كتابات البردوني”

يمكنكم قراءة الجزء الثالث من المقال بعنوان ( شؤون البردوني الثقافية..عن صراع مدارس الأدب والذين ما عرفوا قديماً ولا أحسنوا حديثاً)