المشاعر الإنسانية ومشاعر الأبوة خصوصاً قد تصدر ممن لا نتوقع وفي الوقت الذي لا نتوقع إلا أنها تصدر بالفعل وتصبح واقعاً معاش، فمن يتوقع أن يقوم أب من ذوي الإعاقة العقلية برعاية طفلة لم تبلغ الفطام بعد، صحيح ما بين أيدينا اليوم هي قصة فيلم لكن تأكدوا أن هناك قصص في الواقع تتجاوز توقعاتنا بكثير وتجعل من المستحيل واقعاً ماثلاً أمام الأشهاد، وأن الله قبل كل شيء يسخر بعضنا لبعض لتمضي صيرورة الحياة على الكيف الذي تريده مشيئته المقدسة.
فيلم الأسبوع يتحدث عن شاب اسمه “سام” رجل بجسد بالغ وعقل طفل لا يتجاوز سبع سنوات، تهجره زوجته بصحبة طفلتهما الرضيعة “لوسي”، فهي لا تريد الإنجاب منه هي فقط كانت تريد مأوى لها، ليتولى “سام” مهمة رعايتها كاملة، بمساعدة جارته وأصدقاءه أصحاب الإعاقات العقلية المشابهة له.
ولكن عند بلوغ “لوسي” عمر السابعة وانتباه السلطات لوجودها مع أب من ذوي الإعاقة الذهنية تقوم بالتفرقة بينهما لتوفير حياة أفضل للوسي، ليبدأ “سام” صراعه مع السلطات بواسطة محاميته ويسترد طفلته لحضانته من جديد، وبين مناقشة ما يحتاجه الطفل حقًا في التربية والنشأة الصحية بين والدين بمعدل ذكاء طبيعي، أو والد قادر على أن يمنح طفلته كل المحبة والاهتمام، تدور أحداث الفيلم في قالب إنساني درامي يمس القلب.
الفيلم أمريكي من إنتاج عام 2001، إخراج “جيسي نيلسون”، وبطولة “شون بن”، و “داكوتا فانينج”، و “ميشيل فايفر”.
حصد الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل ممثل من نصيب “شون بن”
رياضة ذوي الإعاقة، هي رياضة بقواعد تم تصميمها بحيث يمكن أن تمارس من قبل أشخاص ذوي إعاقة جسدية، أو حسية، أو عقلية، وهي رياضة مكيفة بما يتناسب وذوي الإعاقة بمختلف فئاتهم، وكثير منها يتركز على رياضات موجودة وقائمة، ومع ذلك فقد تم إنشاء بعض الألعاب الرياضية خصيصا للأشخاص ذوي الإعاقة، وتقام بطولات محلية وإقليمية ودولية في شتى الألعاب تنظمها اتحادات خاصة برياضة ذوي الإعاقة.
تاريخياً تصنف رياضة ذوي الإعاقة بحسب الفئة التي تمارسها، فهناك ألعاب رياضية خاصة بالمكفوفين، وأخرى خاصة بذوي الإعاقة الحركية والصم وغيرها، كما أن هناك ألعاب مشتركة بين أكثر من فئة مثل: الشطرنج، وشد الحبل، وكل فئة لها تاريخها الخاص، منظماتها والأحداث ورؤيتها للرياضة.
وقد وعى العالم مبكرًا أهمية رياضة ذوي الإعاقة، فمنذ عام 1988 ضمت اللجنة الأولمبية إليها ألعاب رياضة المعاقين – البارالمبية -، وبعدها بعام واحد ضمت اللجنة جميع المرافق الرياضية للرياضيين المعاقين.
وهناك اتحادات ومنافسات دولية لرياضة ذوي الإعاقة، وأشهر تلك الرياضات: ألعاب القوى والسباحة وتنس الطاولة والجودو وكرة السلة وكرة القدم وكرة الجرس والشطرنج.
وكجزء من حال الرياضة بشكل عام في بلادنا، تعاني رياضة ذوي الإعاقة من واقع مزرٍ وغير مشجع تعاظمت حالة الازدراء مع اندلاع الحرب في العام 2015، مع العلم أن بعض الإعاقات لا تملك فرق رياضية دائمة ولا حتى أندية وأماكن للتدريب.
شحة الموارد وغياب الاهتمام
رئيس الاتحاد العام لرياضة المعاقين في صنعاء، الأستاذ عبدربه ناصر حميد، في حديث مع الـ MCPD يصف واقع الرياضة في اليمن بالضعيف جدًا ويعزو ذلك لعدة أسباب أهمها: عدم وجود الوسائل والصالات الرياضية الخاصة بذوي الإعاقة وضعف الدعم المادي ، إضافة إلى غياب الاهتمام من الجهات المسؤولة عن رياضة المعاقين.
ويقول عبدربه: “إن الاتحاد مع هذا الواقع المؤلم يقدم الشيء البسيط من خلال إقامة بطولات موسمية لا تفي بالغرض”، معترفًا بتقصير الاتحاد للأسباب آنفة الذكر.
وأشار رئيس الاتحاد إلى أن لديهم خططا وبرامج سنوية، لكن لا يتم تنفيذها بحسب ما يخططون له والسبب يعود إلى الصعوبات المذكورة سابقًا، حسب قوله.
اللاعبة بلقيس طارش الشرجبي، من ذوي الإعاقة الحركية، تخصص دفع الجلة F57، من جانبها تقول لـ MCPD إنهم لا يمتلكون صالة رياضية للتدريب واللعب، وتشكو غياب الدعم والتشجيع من الجهات الحكومية المسؤولة.
ويشاركهما الرأي ليبان الجماعي، وهو مدرب ألعاب القوى لذوي الإعاقة، إذ يقول: “إن واقع رياضة ذوي الإعاقة في اليمن، محزن للغاية، ولا يوجد اهتمام حقيقي ولا بنية تحتية، علاوة على تدني ميزانية هذه الرياضة بشكل كبير جدًا.”
أما عبدالرحمن الحنق، وهو لاعب كرة الجرس من ذوي الإعاقة البصرية، في مركز النور وجمعية المكفوفين وسبق أن شارك في بطولة دولية، فيتطرق إلى عدم وجود أندية خاصة لتدريب اللاعبين من جميع فئات الإعاقة في اليمن وبشكل مستمر.
ويشكو في حديثه للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة MCPD ضعف التدريب والتأهيل والاختيار العشوائي -حسب وصفه- للاعبين أثناء المشاركة في البطولات الدولية، علاوة على عدم وجود مدربين متخصصين في الألعاب الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة.
مسار مُعطّل وآمال معلقة
يقول عبدربه حميد، إن لدى الاتحاد شراكة مع البارالمبية الآسيوية، مشيرًا إلى أن آخر بطولة شارك فيها الاتحاد كانت في البحرين خلال الفترة 18 – 26 فبراير/2022، وحصل على ذهبيتين وفضيتين وبرونزية في العاب القوى وكرة الريشة، لافتًا إلى مشاركة لاعبي الاتحاد خلال الفترة من 16 أغسطس إلى 6 سبتمبر 2022 في أولمبياد طوكيو.
وأضاف رئيس الاتحاد أن لديهم رياضيين من ذوي الإعاقة يلعبون كرة السلة بعدد إجمالي 54 من الذكور والإناث، منهم 30 لاعبة و24 لاعبًا، وهم يتدربون على مدار العام بدعم من الصليب الأحمر الدولي.
ورغم كل المعوقات والعقبات يذكر عبد ربه أن اليمن حققت فوزًا في سبع بطولات عربية في كل من مصر والأردن خلال الفترة 2007 – 2014، بفضيتين وبرونزية وبقية البطولات برونزيات في رياضة تنس الطاولة.
إلى ذلك، قال المدرب ليبان الجماعي، في حديث مع الـ MCPD: “نقوم حاليا بوضع البرامج التدريبية للرياضيين من ذوي الإعاقة وكذلك تحفيزهم على ممارسة الرياضة عموماً وألعاب القوى خصوصاً وذلك بحسب الظروف والإمكانيات المتوفرة كما نقوم بانتقاء العناصر المميزة منهم و تجهيزهم للمشاركة في المحافل الدولية القادمة”وأوضح المدرب الجماعي أن ألعاب القوى لذوي الإعاقة، تحتوي على 3 فعاليات رئيسية وهي :
1) فعاليات الجري:- وتحتوي على سباقات (١٠٠م،٢٠٠م،٤٠٠م،٨٠٠ ١٥٠٠،٥٠٠٠م)
2) فعاليات القفز:- وتحتوي على (القفز العالي والقفز الطويل)
3) فعاليات الرمي:- وتحتوي على (دفع الجلة، رمي القرص، رمي الرمح، رمي الصولجان) وهناك تصنيفات متعددة بحسب نوع الإعاقة لكل فعالية وذلك لضمان منافسة عادلة بين الرياضيين”
ويأمل الجماعي أن تتظافر الجهود الحكومية والخاصة لدعم رياضة ذوي الإعاقة وكذا التوعية الإعلامية بأهميتها الكبيرة للمعاقين صحيا وبدنيا وبما يساهم في تحقيق الدمج في المجتمع. وعبّر عن أمنياته بزيادة الاهتمام برياضة الأشخاص ذوي الإعاقة ليتمكنوا من تحقيق طموحاتهم ورفع علم اليمن في كل المحافل الدولية.
أما لاعب كرة هدف المكفوفين، محمد عبدالقادر الكاف، فقد أبدى أمله في إجراء التدريبات المتواصلة للاعبين وإقامة البطولات المحلية، فيما تطمح اللاعبة بلقيس طارش الشرجبي التي سبق وأن شاركت في دورة الالعاب البارالمبية الثانية عشر في طوكيو 2020، تطمح شخصيًا إلى تحقيق ميدالية دولية لليمن.
وتبقى التربية الرياضية من أفضل الوسائل لتطوير قدرات ذوي الإعاقة، من حيث المشاركة الفعليّة في الأنشطة المختلفة. والتربية الرياضية برسالتها السامية وفلسفتها الحديثة تعمل على الاعتناء بالفرد وإذكاء العقل والجسم كوحدة متكاملة.
ومن هنا يُمكن تأهيل ذوي الإعاقة ضمن خطوات علمية سليمة، من حيث استغلال قدراتهم والتركيز عليها. وبالتالي تأهيلهم ودمجهم مع المجتمع بما يضمن إتاحة الفرصة أمامهم للإبداع والإنتاج، وهذا الهدف النبيل والحق المشروع بحاجة إلى إيمان ذوي الإعاقة أنفسهم بأهميته وتوعية المجتمع بضرورته ودفع المؤسسات الحكومية والخاصة والجهات الخارجية ذات العلاقة إلى مضاعفة الاهتمام لتحقيقه.
فرض ذوو الإعاقة ومؤسساتهم قضايا الإعاقة بقوة على المشهد النقدي للدراما، فأصبحت صورة ذوي الإعاقة في الدراما تحت المجهر من قبل ذوي الإعاقة ومناصريهم والنقاد، فرأينا مؤخراً في عالمنا العربي واليمن حضوراً إيجابياً لذوي الإعاقة كأشخاص وقضايا مقابل الحضور السلبي والنمطي الذي رغم وجوده الكبير إلا أنه يتقلص بفعل الوعي المتزايد، وفرض قضايا الإعاقة حقوقياً على النقد وتواجد ذوي الإعاقة الواضح في وسائل الإعلام الجديد على وجه الخصوص.
وفي هذه السلسلة سنستعرض معكم كل أسبوع فيلم أو مسلسل تحدث عن ذوي الإعاقة، وبالتأكيد سنتحدث عن النماذج الإيجابية والمشرقة أولاً
هو فيلم أمريكي مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب “ونستون جرووم”، وتدور أحداثه عن “فورست جامب” ومراحل مختلفة من عمره، بدايةً من طفولته التي كانت قدماه مصابةً بتقوس جعلها توضع في دعامات كانت مصدر سخرية من الأطفال المحيطين به، وعلاقته المميزة بوالدته التي غرزت فيه أفكار ومعتقدات كونت شخصيته المميزة والفريدة، ويستطيع “جامب” التخلي عن الدعامات بل ويصبح عداءً سريع بشكل استثنائي
ولكن هذه لم تكن كل مشاكله، فلقد كان لديه قدرات عقلية أقل من المتوسطة ورغم ذلك استطاع أن يلتحق بالجامعة، بل وينضم للخدمة العسكرية ويخوض الحرب في فيتنام، وبعد انتهاء فترة خدمته يبدأ في الخروج للحياة العملية، ويستطيع بتوفيق يثير الإعجاب أن يحقق ثروةً لا بأس بها، ليصبح مثالًا وقدوةً في حياة الكثيرين.
الفيلم أمريكي من إنتاج عام 1994، إخراج”روبرت زيميكس”، وبطولة “توم هانكس”، و “روبين رايت”، و “سالي فيلد”، و “جاري سينيز”.
حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل مؤثرات بصرية، وأفضل مونتاج، وأفضل ممثل لـ”توم هانكس”.
-هل شاهدتم هذا الفيلم من قبل؟، لمشاهدة الفيلم مترجم باللغة العربية من خلال هذا الرابط (Forrest Gump)
لقد التحق الأستاذ الراحل عبد الله البردوني بالإذاعة مبكراً، بل وكان من أهم الذين رسموا ملامحها التحريرية عقب ثورة 26 سبتمبر أيلول 1962 سواءً من خلال مناصبه الإدارية أو من خلال البرامج التي كتبها للإذاعة، إلا أن الأستاذ والشاعر الكبير –علوان الجيلاني، يتحدث في هذا المقال عن البردوني كمستمع للإذاعة، وكيف رصد الدور الثقافي، والتنافس البناء بين بعض الإذاعات العربية حيث يقول:
تحضر أهمية الإذاعة في حياة البردوني بوصفها نافذة معرفية بالغة الخطورة، ولأنها كانت بالغة الأهمية له على وجه الخصوص، فهي قارئه حين يغيب من يقرأون له، هناك أكثر من تناوله يناقش فيها حوارات الإذاعة وبرامجها الثقافية بوصفها مصدرا مهماً من مصادر متابعته للشأن الثقافي، وارتباطاته الشرطية بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن ذلك ما كتبه تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” عن إذاعة القاهرة وبرامج مأمون أبو شوشة وسامية صادق. ونحن في الحقيقة نقرأ في هذا الموضوع سرداً استقصائياً مذهلاً لتطور البرامج الثقافية والفنية في الإذاعات العربية من نهاية خمسينيات القرن العشرين إلى نهاية تسعينياته.وهذه الكتابة ليست الصدى الوحيد لبرامج الإذاعة في هذا الكتاب، فهناك مواد أخر مثل ” حفريات على أخاديد”.
ومن هذا المشرب مقالة عنوانها “بدايات متشابهات” تتموضع التنافس الفني بين مصر وسوريا، والبردوني إذ يتتبع أطوار التنافس منذ منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر هي الرائد الذي لا ينافس، يقوم بكشف الكثير من أسرار تفوق الدراما السورية في التسعينيات. وليس خافياً في مثل هذه التناولات تعمده تنوير القارئ بمقدار تعمده جرجرته إلى تحويل التلقيات التي صار الناس يتعاملون معها بوصفها مجرد تسليات إلى اشتباك معرفي حقيقي وناجح.
والحقيقة أن هذه استراتيجية تتراءى في أكثر ما يكتبه. فهو لا يداري رغبته في جرجرة القارىء إلى مزيد من الاطلاع والبحث، يفعل ذلك –خاصة- حين يتقصّد الكتابة على طريقة مثاقفة العارفين، إذ يعطي القارئ تلميحاً يمثل طرف الخيط ثم يدعه لفضوله؛ من ذلك على سبيل المثال؛ قوله يناقش عاتكة الخزرجي حول العباس بن الأحنف في مادة ” فن الرسائل الأدبية” “فلم تصل إليه سن العشق والغزل إلا وقد بلغ يدب على العصا، كما قال جرير. ثم لا يذكر قول جرير، لكنه يسلم الأمر لرغبة القارئ في الاستكمال والاستزادة. ولا بد بعد ذلك أن يبحث القارئ في الكتب، ليعرف أن المقصود هو قول جرير:
وتقولُ بَوْزَعُ: قدْ دببتَ على العصا. هَلاّ هَزئْتِ بغَيرنَا يا بَوْزَعُ.
ونبحر معكم في المقال القادم حول بعض السمات الأسلوبية للأستاذ البردوني، وكيف كان يقتبس ويستدعي بل ويستبدل؟ انتظرونا في المقال القادم بعنوان:
في المقال السابق كان الحديث عن تجليات النقد في كتاب الراحل عبد الله البردوني “شؤون ثقافية”، واليوم مقترب أكثر لنخوض مع الأستاذ البردوني تفاصيل حقبة هامة من الصراع بين القديم والحديث، وكيف جمع البردوني بين الأصالة والمعاصرة؟
فقد جاء في الكتاب تحت عنوان “أقاليم الزمن الفني” يعود إلى النيل ممن يخلطون بين الابداع وبين الانتماء لتيار ما في الكتابة، ومن يعتبرون الانغماس في مناهضة القديم دليلا على الحداثة ” ومع هذا تجد الشعراء- الذين لم يشعروا ولن يشعروا – مجرد عصابات، أو (مافيا) يحاربون كل إنسان أتقن عمله، وكل شاعر أعطى الكلمة حقها من القول والفن، فهؤلاء غير خارجين من القاعدة، ففي كل موسم شعري يطفح الزبد ويرسب الماء النقي، فلا تخلو هذه المدرسة من شعراء مجيدين، لكنك لا تجد هؤلاء الذين يملكون الجودة حاقدين على المبدعين، ولا مقاومين للمجيدين، بدليل أن أبطال المعركة بين القديم والجديد في الخمسينيات، هم من الذين ما عرفوا قديماً، ولا أحسنوا جديداً. أما الشعراء الحقيقيون فانهمكوا في الابداع، معطين إياه كل جهودهم، مستفيدين من تجارب كل المدارس، ومن مأثورات كل قديم، ومن بديعات كل حديث بلا تحيز وبل كراهية لا تحسنها إلا الضرائر”.
وهو يدعم رأيه بمعاينات عميقة مؤزّرة بمقارنات نصية ذكية، يستعرض فيها أثر شوقي في الشابي وبشارة الخوري، وأثره في السياب أيضاً، كما يقرأ خروج واقعية نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وإبراهيم طوقان وبدوي الجبل من خريف الرومانتيكية التي لفظت أنفاسها في نهاية الأربعينيات، ومن تجليات الرمزية التي كان يجترحها في نفس الوقت شعراء مثل صلاح لبكي وصلاح الأسير وسعيد عقل ونزار قباني. ومن هذ المزيج جاءت –كما يقول – أبرز تجارب نهاية الستينيات؛ مثل تجربة أمل دنقل التي كانت أكثر التجارب قوة في السبعينيات ومنها امتدت تجارب مثل تجربتي محمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة في الثمانينيات.
لكنه يرى أن التجارب المميزة التي قدمها أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد أبو دومة لم تمنع سيطرة الغثاثة التي امتدت في مصر خاصة من منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات حين ظهرت مجموعة أسماء رآها مغايرة ” ولم تسفِر المدرسة الجديدة عن وجهها الحقيقي إلا من 1995م إلى الآن -، وذلك بفضل ثلاثة من الشعراء (محمد يوسف، نهى السباعي، سناء صالح). وتبدَّت عناوين مجموعات الثلاثة موحية بالدلالة، لأن المدرسة قد أينعت ودخلت موسم النضج، كما نبهت العناوين ودل المحتوى، فجاءت عناوين محمد يوسف هكذا (اليوم الخارج عن الزمن، الليلة القصيرة بلا مصابيح)، وآخر مجموعة صدرت حينها بعنوان (شجرة الرؤيا) وهي أنضج مجموعاته، بل ومجموعات سربه الشعري.. إلا أن (نهى السباعي) كانت تبدو هازلة بما تقوله ويقوله الآخرون، إذ حملت مجموعتها الأخيرة هذا العنوان (نقرة على جبين الصخرة)، أما (سناء صالح) فسمت مجموعتها الوحيدة (وادٍ بلا ضفاف)”.
الغريب أني لم أسمع قط بهذه الأسماء، وقد استغربت كيف لم تمر عليّ رغم قوة متابعتي، ولأن الأسماء تبدو مصرية فقد سألت بعض الأصدقاء من الكتاب المصريين عنها لكنهم نفوا أي معرفة بها.
وقد كان البردوني ذكياً وهو يَلْمَحُ اختلاف التسعينين، وانقطاع تجاربهم إلى حد كبير عن تجارب سابقيهم، لكنه كان يتعامل مع ذلك الاختلاف بقسوة في أكثر الأوقات، فتحت عنوان “استقراء من بعيد”، وهي مادة انكتبت كرجع صدى لمثاقفات بثتها إذاعات مصر ولبنان حول الاحتفال بحملة نابليون وحول الحداثة، يتتبع الآراء التي تحاورت في إحدى الندوات حول التسعينين حيث دارت المقارنات بينهم وبين سابقيهم، لكن البردوني اعتبر في تعقيبه على الندوة التسعينين جيلاً بلا أصول تقوّمه وبلا نقّاد يتعهدونه، لأن أدباء التسعينيات يرون أنفسهم فوق النقد، لذلك فهو يتوقع أن يخلف التسعينيون جيلا آخر بلا أرومة.
ورغم أن الندوة التي كان البردوني يعلق عليها تتحدث عن تجربة التسعينين اللبنانيين، إلا إنه كان بتعقيبه يضرب الجميع، وكان كلامه يستهدف بعضاً من أشهر سمات جيل التسعينيات في البلاد العربية كلها، أعنى: موت المعنى، وسقوط الأيديولوجيا، وتلاشي المرجعيات الكبرى، والضجيج الواسع حول الحداثة وضرورة الانقطاع عن القديم.
وكانت قسوته أكثر وضوحاً وهو يختم تعقيبه المشار إليه بقوله ” إنهم يكتبون باللغة ونحن نعرف دلالتها وتشكلها وكيفية سبكها، ولغتهم لا تدل على سبك، ولا ترمي إلى دلالة معينة”، مضيفاً ” فقد فاتهم الكثير من التعليم، والهتهم المباراة على الحداثة عن معرفة الاجادة والأصالة.
ويتكرر توقفه عند تنافس دمشق وبيروت على الاحتفال بذكرى إيليا أبو ماضي سنة 1958م، وهو بقدر ما يثني على ذلك التنافس كونه بادرة جمالية تتوجه إلى مستحق للاحتفاء بكل المقاييس، إلا أنه هاجم بشدة ذوق الكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة الذي صعد إلى منصة تكريم زميله الراحل وبدلاً من سرد مآثره الجليلة إبداعاً وإنساناً، راح يسرد معايبه ومثالبه ونقائصه، وإذا كان جورج صيدح المسؤول عن تنظيم حفل تأبين أبو ماضي قد انتقد سماجة ما فعله نعيمة في ذلك الموقف لأن لكل مقام مقال، فإن البردوني ذهب إلى أبعد من ذلك فلمح فيما فعله نعيمة نوعاً من القصديّة تنم عن سوء طوية، فقد سبق له أن فعل ذلك مع جبران خليل جبران أهم نجوم ذلك الجيل من المهجريين، واستطرد البردوني ” لقد سبق أن شكَّ بعض القراء الجديين أنه كان يتعمد الإساءة إلى جبران في كتابه عنه، بضحوة الخمسينيات، حتى توالت الفصول والكتب في الرد على نعيمة.. ذلك لأن جبران لاح لقرائه ملكاً سماوياً يمشي على الأرض، لأنه كان يرقى إلى مثالية المثالية، وبالأخص في كتابه (النبي) و(حديقة النبي)، وفي قصيدته (المواكب). وما وجده القارئ في كتاب نعيمة (حياة جبران) إلا كثر نزوات.. فقد أوضح خديعته للسيدة (ماري هاسكيل) التي أحبته وأنفقت على تعليمه في باريس، وهو يتقلَّب في نعيم عطاياها ويقضي الليالي مع غيرها ممن تملك جسداً يفوق جسد (ماري)، وإن كانت لا تحمل روحها كما كان يتمنى. كان يخادعها جبران بأنه يجلُّها عن الفراش لأنها أعظم من أن تتمرغ في الطين.
ورأى نعيمة في هذا خديعة، وما حدثت غير مرتين، وهذه انزلاقاتٌ لا تمرّغٌ في الطينية والخدائع الدنيَّة، لأنه روحاني في كل ما كتب.. كما في قصة (خليل الكافر) إحدى قصص (الأجنحة المتمردة)”.
وفي سياق ملاحظاته على كتاب شوقي ضيف “عالمية الإسلام” يستطرد إلى مناقشة أسلوب شوقي ضيف في سائر مؤلفاته عن تاريخ الأدب العربي مؤكداً أن شوقي ضيف ” تفرد بدراسة تأثير الأدب بعضه في بعض، بطريقة الماحية، فلم يقف محللاً إلا في الأجزاء الخاصة بشعر العصور العباسية التي امتزج فيها الشعر بالغناء، والغناء بالشعر”. ويأخذ على شوقي ضيف أنه ” ردَّ سبب كثرة البحور القصيرة في الشعر العباسي إلى انتشار الغناء والفنانين، مع أن تلك المجزوءات –كما يقول البردوني – ظهرت بمقدار من العصر الجاهلي.. حتى في الموضوعات التي تستدعي طول البحر كالرثاء، فقد رثت “أم السليك” وحيدها على هذا الضرب:
طاف يبغي نجوةً
من هلاكٍ فهَلَكْ
ليت شعري ضلَّةً
أي شيء قتلَكْ؟”
وهنا يبدو لي أنه قد فات البردوني أن علة مجيء قول أم السليك على بحر مجزوء ، هو كون شعرها كان بكاءً على ابنها، بمعنى أنه كان غناءً على طريقة المُعْزَى المعروف حتى اليوم في تهامة، وهو شعر تندب به النساء الراحلين من أهلهن، يقدمنه في سياق بكاء مغنى مؤزر بلوازم صوتية، ولا يكون إلا في بحور قصيرة. وهذا يوافق ما ذهب إليه شوقي ضيف من رد سبب كثرة البحور القصيرة في العصر العباسي إلى انتشار الغناء.
في المقال القادم نتحدث معكم عن شغفه بالإذاعة بعنوان: