المركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى بمناصرة حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة

في اليوم العالمي للمرأة ذوات الإعاقة خجل مجتمعي ونماذج تواجه.

في اليوم العالمي للمرأة ذوات الإعاقة خجل مجتمعي ونماذج تواجه.

خاص: سهير عبدالجبار/

في يوم المرأة العالمي والذي يصادف 8 مارس من كل عام تحتفل النساء حول العالم بما تحقق لهن من منجزات ويطالبن بالمزيد، وفي نفس الوقت تجد النساء ذوات الإعاقة في اليمن التهميش والصعوبة في المطالبة بحقوقهن ويقعن بين ناري خجل بعض الأسر من وجود بنات ذوات إعاقة وعدم تقبل المجتمع لهن أسوة بغيرهن من النساء والفتيات بعيداً عن نظرة الشفقة والرحمة أو الانبهار المبالغ فيه إزاء إي إنجاز يقمن به.

تقول فلة القباطي، رئيس مركز فتيات الصم الرياضي التنموي: “أكثر ما يعيقنا هو المجتمع وعدم تقبله لنا، كما أننا نشعر بالعزلة عن محيطنا الاجتماعي، ولانجد الفرصة لكي نتحاور مع المجتمع لأن هناك فجوة بيننا فهم لا يفهمونا ولا نفهمهم، نشعر بحزن وغضب وخجل منهم وثم نتعود أن نكون مكافحين مستقلين بحياتنا”

قد تكون بعض الفتيات معاقات منذ الولادة بينما يتعرضن أخريات للإعاقة فيما بعد بسبب حادث أو مرض ما ويؤثر على تفاصيل كثيرة من حياتهن،
وهنا يأتي دور الأسرة والشخص نفسه في مساعدة نفسه وتقبل ما حدث، ويأتي دور المجتمع ثانياً ليعين المعاق.

وفي حين تخجل بعض الأسر من وجود ذوات إعاقة بين أبنائها تقدم أسر أخرى نماذج متميزة في التعامل مع بناتها ذوات الإعاقة.
حياة الأشموري، وهي كفيفة وناشطة في مجال الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي أثبتت جدارتها و تحدت الظروف البيئية والتكنولوجية غير المهيئة، تقول: “أنا ساعدت نفسي بأن تقبلت اعاقتي، ولم تشعرني أسرتي بأنني أقل من أحد وتكيفت مع وضعي وقدمت لي الكثير”

تضيف الأشموري: “أعتبر أن للجمعيات ومؤسسات ذوي الإعاقة والمجتمع دوراً مهماً في ترسيخ ثقافة التقبل والدمج بين المعاقين وباقي فئات المجتمع، ،فمن خلال انضمامي من طفولتي لجمعية الأمان لرعاية الكفيفات درست في المعهد التابع للجمعية حتى الصف السادس، ثم جاء دور الدمج بإلحاقي وزميلاتي في المدارس العامة من الصف السابع وحتى الثالث الثانوي، وكذلك في المرحلة الجامعية”

غير أن الكثير من الجمعيات ومؤسسات ذوي الإعاقة قد توقفت عن تقديم بعض الخدمات التأهيلية والاجتماعية وبعضها تعرضت للإغلاق تماماً بسبب الحرب المستعرة منذ ثمان سنوات ما يشكل تراجع عن الأدوار المتميزة التي كانت تلك المؤسسات قد قطعت شوطاً لا بأس به قبل الحرب.

من ناحيتها تعتقد الدكتورة لينا العبسي، الأستاذ المساعد في قسم علم الاجتماع، أن الأمر ليس بتلك السهولة وتقول: “الموضوع أكبر من الخجل بالنسبة للفتاة المعاقة فهي تخاف من أن يتم استغلالها وتهميشها أو أن تجد تعامل سيء أو رافض لها، كذلك تخاف الفشل لان هناك نقص في تقدير الذات وشعورها بأنها أقل شأناً من الأخريات”

وتلفت النظر الخبيرة الحقوقية الدولية رجاء المصعبي، إلى التمييز داخل الأسر التي ربما تتقبل ابنها المعاق الذكر فيما تتحرج وتخجل إذا كانت ابنتها معاقة، وتضرب مثال بأن أسر الذكور ذوي الإعاقة قد تذهب للخطبة لأبنائهم بينما لا تتقبل فكرة زواج ابنتهم ذات الإعاقة.
أما عن تقييمها لدور المنظمات الإنسانية ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة فقد‏إضافت المصعبي بالقول:

“إن منظمات المجتمع المدني فيما يتصل بقضايا النساء ذوات الإعاقة لا تعيرها أي اهتمام وتعمل من منظور (التسول)، ومؤسسات الدولة لاتغطي 20% من نفقات المعاقين وتعمل بشكل رعائي ، فهي لم تحتضن المعاق بشكل عام”

على الرغم من تحقيق العديد من النساء ذوات الإعاقة نجاحات شخصية ومؤسسية إلا أن العدد الأكبر منهن يعانين التهميش والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية، وترتبط نظرة الخجل من وجود ابنة ذات إعاقة عند بعض الأسر بالدونية والنقص وأن ذلك قد يؤثر على المركز الاجتماعي لها ما يترتب عليه إخفاء للفتيات ذوات الإعاقة وحرمانهن من التعليم أو الالتحاق بمؤسسات ذوي الإعاقة.
من ناحية أخرى تفتقر اليمن لوجود إحصائيات دقيقة عن ذوي الإعاقة عموماً فضلاً عن وجود إحصائيات فئوية تحدد الأطفال ذوي الإعاقة أو النساء ذوات الإعاقة، وما يتم تداوله هي إحصائيات تقريبية حيث قدرت منظمة الصحة العالمية ومنظمات دولية أخرى إلى بداية العام 2020 أن أعداد ذوي الإعاقة في اليمن تصل إلى أربعة مليون ونصف المليون إنسان بينما قدرت الأمم المتحدة أعداد ذوي الإعاقة في خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن لهذا العام بأربعة مليون وتسع مائة ألف شخص.
وفيما تحشد الأمم المتحدة والمنظمات النسوية حول العالم الجهود التوعوية في اليوم العالمي للمرأة بالمناداة بحق النساء في الفضاء الرقمي لا تزال النساء ذوات الإعاقة يخضن معركة الاعتراف بحقوقهن الأساسية في مختلف المجالات وفي مقدمتها التعليم وحق العمل، فضلاً عن الكرامة الإنسانية وعدم التهميش والحرمان والتعرض للتعذيب والإخفاء ومعاملتهن كجالبات للنقص والازدراء في أسرهن كما تقول الناشطات ذوات الإعاقة.

عبد الله حسين والبحث عن عمل بعد الإعاقة.. تحدي وجودي.

عبد الله حسين والبحث عن عمل بعد الإعاقة.. تحدي وجودي.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

في ظهيرة 19 فبراير شباط عام 2018 كان عبد الله حسين يتجول رفقة أحد أصدقائه كأي يوم عادي، ولم يكن يعلم أن ثمة خطوة ستغير حياته إلى الأبد، خطوة واحدة هي التي غيرت مجرى الأحداث فيما بعد تماماً في حياة عبد الله، وأسرته التي يعيلها وتتكون من زوجته وأبنائه الأربعة.

لقد داس عبد الله على لغم أرضي أدى إلى بتر رجله اليمنى في الحال وأصيب بجروح أخرى، بينما حالت عناية الله دون أصابت صديقه الذي كان يُبعد عنه عدة أمتار.

يتحدث للمركز الإعلامي للأشخاص ذوي الإعاقة عبد الله حسين ناصر، 33 عاماً، وهو من أبناء محافظة حجة الواقعة شمال اليمن وتُبعد عن صنعاء بحوالي 223كم عن قصته قائلاً: “لم أكن أتوقع أن تلك المنطقة مزروعة بالألغام وحينما انفجر بي اللغم لم أفقد الوعي بل أنني صرخت بصديقي أّلا يقترب وأن يظل ثابتاً في مكانه خشية انفجار لغم آخر وزحفت على الأرض ما يقارب  الثلاثين متراً حتى وصلت إليه وبادر بأخذ هاتفي من جيبي والاتصال بشقيقي الذي أقبل على الفور وقام بإسعافي مع صديقي على دراجة نارية إلى المركز الصحي القريب من المنطقة، ثم تم نقلي إلى مستشفى أخر بإمكانيات أفضل وهناك ظليت فيه 20 يوماً أتلقى العلاج اللازم”، ويضيف عبد الله: “إن بعض الأعصاب وخصوصاً أعصاب الرجل المبتورة بدأت بالتيبس وكادت تؤدي إلى مضاعفات أخرى وهذا ما اضطرني للانتقال إلى مركز الأطراف في صنعاء بتوصية من الأطباء المختصين لغرض إجراء التمارين والتدريبات اللازمة”

تحدي إثبات الوجود خياراً وحيداً.

ليس من السهل أن يتكيف شاب اعتاد على النشاط والحركة مع الإعاقة المفاجئة خصوصاً أن عبد الله لم يكن يملك من الوقت والظروف ما تمكنه من التوقف أو إعلان العجز والاستسلام فقد كانت معركة الحياة مستمرة ولا تزال، فلديه أسرة هو عائلها الوحيد، وهنا كانت الخيارات المتاحة أمامه قليلة جداً إذ أنه قبل الإعاقة كان يعمل بالعديد من الأعمال الحُرة بأجر يومي ومعظمها إن لم يكن جميعها باتت غير مناسبة.

واستمر عبد الله ينحت في الصخر، وحاول ثم حاول حتى وصل ولكل مجتهد نصيب.

يقول عبد الله أن المعنيين في جمعية قنوات الأمل (وهي إحدى أبرز الجمعيات العاملة بمجال ذوي الإعاقة في محافظة حجة) تواصلوا به منتصف العام الماضي وعرضوا عليه فرصة تدريبية ممولة في مجال الخياطة والتطريز وأنه قد التحق بتلك الدورة واستفاد منها بشكل كبير، وبتعبيره الخاص قال عبد الله بلهجته المحلية: “فرحت بهذه الفرصة وبأنني سأجد لقمة جهالي بنفسي كما كنت ولن نمد أيدينا إلى أحد بفضل الله” (لُقمة الجهال هي: تعبير محلي شائع ويعني العمل الذي يوفر لصاحبه دخل مادي يكفي لمواجهة الاحتياجات الأساسية للأسرة).

يعمل عبد الله في محله الكائن في مدينة حجة من السبت إلى الخميس ولا يعود لأهله إلى يوم الجمعة بسبب أنهم في عزلة النفيش- مديرية الشراقي البعيدة عن مكان عمله.

ولكن ورغم اهتمامه بعمله ومحاولة تطويره باستقدام الأقمشة الحديثة والتعلم الذاتي على أحدث الموديلات وفنون الخياطة والتطريز يشكو عبد الله من قلة الإقبال وضعف القدرة الشرائية للمواطنين ما ينعكس على عمله بشكل مباشر، وهذا ما دفعه للاحتراف في صيانة مقاعد السيارات والدراجات النارية وتنجيدها إلى جانب عمله الأساسي، ويطالب من الجهات المختصة أن تراعي خصوصية محله والكف عن مضايقته بسبب العمل الجديد لحين تضمينه في رخصة المحل عند تجديدها.

كرامة المعاقين قبل أي شيء.

يطالب عبد الله من الجهات الحكومية والخاصة والمنظمات الإنسانية أن تولي اهتمام أكبر بملف معاقي الحرب في اليمن فهم بحاجة ماسة للوقوف إلى جانبهم ومد يد العون إليهم للتكيف مع الوضع الجديد بغض النظر إذا ما كان أولئك المعاقين مدنيين أو عسكريين فهم قد أصبحوا من ذوي الإعاقة ولهم نفس الحقوق دون تمييز على حد تعبيره.
وحينما طلبت من عبد الله أن يوجه رسالة خاصة لزملائه معاقي الحرب قالها باختصار: “كرامتكم قبل كل شيء ودعمكم من أي جهة حق مكفول، ورغم الظروف نستطيع أن نصنع الاكتفاء الذاتي لأنفسنا وأسرنا بأنفسنا فلا تيأسوا”.

كمينٌ للطفولة بمحافظة إب ينتهي بمأساة فكيف يمكن إيقافها؟.

كمينٌ للطفولة بمحافظة إب ينتهي بمأساة فكيف يمكن إيقافها؟.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

هنا شارع “العُدين” بمحافظة إب الواقعة وسط اليمن.
ومثل كل قرى ومدن البلاد تزينت المدينة لاستقبال عيد الأضحى المبارك.
وفي صبيحة العيد غص شارع العُدين بالرجال والنساء والأطفال العائدين من صلاة العيد وأولائك الذاهبون لزيارة أقاربهم وأصدقائهم.

على ناصية الطريق وأنت تنظر في الثوب الأخضر الذي ارتدته هذه المحافظة بعد موسم مطير، وتستمتع برؤية الأطفال في مجاميعهم الصغيرة وهم يجوبون الشوارع للسلام على الأهالي متنقلين من منزل إلى آخر كما جرت العادة في الأعياد تستوقفك إحدى تلك المجموعات وبينهم طفل يغني بصوت عذب مع أصدقائه –يبدو أنه في التاسعة من عمره– فجأة ينظر الطفل إلى جانب الطريق وكأنما يلحظ شيءً ما ثم يترك أصدقائه ويهرول مسرعاً حتى يتوقف بجانب عمود الإنارة، ينحني الطفل نحو الأرض وكأنما يريد أن يلتقط لعبة أو هدية أحب أن يظفر بها لأنه رآها قبل أصدقائه، وماهي إلا ثواني بسيطة حتى يهز الشارع صوت انفجار لم يعرف المواطنون والمارة مصدره لكن الأطفال ومن كانوا بالقرب من المكان كانوا يرتعدون فزعاً وخصوصاً حينما شاهدوا ذلك الطفل الذي كان يغني منذ قليل وهو يطير في الهواء ثم يسقط على الأرض مضرجاً بدمائه.

وإن كان وسام لن يستطيع أن يلعب مع أصدقائه كرة القدم بعد ذلك إلا أن الأطراف الصناعية أعادت له الأمل بالإضافة لما يتحلى به من عزيمة وإصرار وحب للحياة حيث استمر في الدراسة وهو اليوم في الصف الثالث الثانوي ويأمل أن يتخصص في تقنية المعلومات، هكذا قال لنا فهو محدد هدفه بوضوح.

اتصلنا بوسام صباح اليوم وأخبرنا أنه مسافر إلى محافظة عدن جنوبي اليمن والتي تُبعد عن محافظة إب بحوالي 380-كم وذلك لتغيير الأطراف الصناعية.
وكان قد قال لنا من قبل أنه يضطر لتغيير الطرفين الصناعيين مرة إلى مرتين في العام، وطالب بأن تأسس مراكز متخصصة للأطراف الصناعية في كل المحافظات وذلك لأن ذوي الإعاقة يعانون الكثير عندما يتطلب الأمر تغييرها أو صيانتها بسبب السفر الطويل بين المحافظات وصعوبة المواصلات ووعورة الطرقات.

يتميز وسام بصوت جميل في الإنشاد والغناء ويعزف على العود “والعود آلة شرقية معروفة وتستعمل في اليمن بكثرة”.
يأمل وسام أن يحقق معدل دراسي مرتفع في الثانوية العامة، ويطالب بمزيد من الاهتمام بضحايا الحرب وتأهيلهم ورعايتهم معبراً عن رغبته في تطوير موهبته في الإنشاد والغناء.
لم ينسى وسام أن يوجه رسالة حرص على تكرارها للأطفال أن يبتعدو عن أي جسم غريب أو غير معروف، وإلى الأسرة والمجتمع والدولة أن يبذلوا المزيد من الجهود التوعوية لمنع تكرار مثل تلك الخسائر.
وختاماً يقول وسام: “بأن أي حل لأي مشكلة يواجهها ذوو الإعاقة أو غيرهم في اليمن يبدأ بإيقاف الحرب وبناء عملية السلام”.

قبل زفافهما بيوم.. لماذا ترك العريس هذه الفتاة في تعز؟!.

قبل زفافهما بيوم.. لماذا ترك العريس هذه الفتاة في تعز؟!.

“تم إنتاج هذه القصة بدعم من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الاعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين”

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

رندا، امرأة في بداية عقدها الثالث تعمل معلمة في إحدى المدارس بالمنطقة، وتصطحب طفليها معها كل صباح.

اعتادت رندا أن تمر مع طفليها من جوار كشك لبيع ألعاب وملابس الأطفال وبعض أنواع الحلوى، يقع الكشك أمام مستشفى الأطفال في حي يعرفه أبناء محافظة تعز غربي اليمن بالنقطة الرابعة.

ما لفت نظر رندا هي تلك المرأة التي تعمل في الكشك إذ تراها صباح كل يوم وحتى عند العودة من دوامها تمر من جوار الكشك وتلك المرأة لا تزال مكانها، وغالباً ما تراها تسند ظهرها لكشكها البسيط بين الشمس والرياح.

وفي ذات يوم قررت رندا أن تنعطف إلى ذلك الكشك لتشتري لطفليها بعض الحلوى والألعاب، ولترى صاحبة الكشك عن قرب.

ما إن اقتربت رندا من المرأة حتى رأت في عينيها هموم العالم بأسره، ورأت في تقاسيم وجهها تفاصيل وجع وقصة إنسانة يبدو أن الحياة قد أتعبتها ونالت منها كثيراً.

حاولت رندا ملاطفة المرأة وسألتها عن اسمها وعمرها؟ فأجابتها: “اسمي دليلة، وعمري ثلاثون عام تقريباً”.

ابتسمت رندا، وقالت تلاطف دليلة: “ما تزالي صغيرة، وعلى فكرة أنتي جميلة جداً وقريب أن شاء الله أشوفك عروسة”.

هنا انتفضت دليلة من مكانها وتغير وجهها وهي تردد: “لا، لا أريد أن أكون عروسة مرة أخرى، يكفي ما حصل، يكفي، يكفي أنا تعبت”.

وبينما رندا في دهشتها يبدو أن دليلة شعرت بأنها انفعلت أكثر مما يجب فهدأت قليلاً، لكنها استمرت بوضع كفيها على وجهها وتبكي بحرقة ومرارة.

أخذت رندا تهدئ دليلة وتطبطب على ظهرها، وتقدمت إليها لتحتضنها طالبة منها أن تقبل اعتذارها وأنها لم تقصد أن تؤذي مشاعرها.

وبعد أن هدأت دليلة أمسكت بيدي رندا ونظرت في عينيها نظرة اعتذار خجولة، ثم نظرت للطفلين نظرة طويلة وفاحصة وقالت: “الله كم تمنيت أن أكون أماً وأن يكون لي أطفال، لكن زوجي تركني يوم زفافي لسبب لا ذنب لي فيه، بل أنه طلقني عبر المحكمة وتزوج بامرأة أخرى بعد أن استرجع مهري ليعطيه لها”.

رندا في ذهول: “طلقك بسبب لا ذنب لك فيه! واسترجع المهر!!! وعبر المحكمة أيضاً؟!!!، ما هذا! وبأي قانون! ولماذا!”

تسحب دليلة نفساً طويلاً ثم تطلق تنهيدة من أعماق صدرها: “الحرب الحرب، بسبب الحرب يا رندا”، ثم ترفع دليلة رأسها لترى باص (حافلة النقل) قادم من الخط الرئيسي فتتوقف عن الحديث لتستأذن رندا وتغلق الكشك وتحمل بضاعتها على ظهرها حتى تدرك الباص قبل أن يفوتها.

تعود رندا بصحبة طفليها لمنزلها وحديث المرأة لا يفارق تفكيرها، – ما السبب الذي يدفع رجل للتخلي عن عروسه يوم زفافه؟!، – ما علاقة الحرب بمثل هكذا قضية؟!، – ما الذي تخفيه دليلة وراء قصتها الغريبة؟!.

ما علاقة الحرب بعرس دليلة ليفشل؟

تبدأ القصة في قرية الشقب التابعة لمديرية صبر الموادم جنوب شرقي محافظة تعز في العام 2018م.

كانت تعيش دليلة ذات الخمسة والعشرين عاماً مع والدها ووالدتها ميسورة الحال، فبالإضافة للأراضي الزراعية التي تمتلكها أسرتها كانت تزاول العمل التجاري في المستلزمات النسائية.

وفي منتصف العام 2018 كانت قرية الشقب تشهد أشد أيام الحرب ضراوة، حيث كانت القرية منطقة تماس بين عدة أطراف متحاربة.

وعلى وقع الرصاص وتحت أزيز الطائرات وهدير المدافع تحاصر سكان القرية فلم يستطيعوا الخروج منها أو الدخول إليها، واستمرت المعارك والمشهد كما هو لم يتغير.

هنا بدأ سكان القرية بممارسة نشاطات الحياة في وجه الموت، ومن تلك الأنشطة استمرار الأعراس وحفلات الزواج.

وكان موعد عرس دليلة في تاريخ ذهبي حرص شريكها على اختياره بعناية “7 / 7 / 2018”.

قبل هذا التاريخ بدأت كما جرت العادة مراسيم العرس بمنزل الفتاة، ولكن قبل الموعد بيوم واحد وقع ما لم يكن في الحسبان ليتغير كل شيء ولتتغير حياة دليلة إلى الأبد.

خرجت دليلة لجلب الماء من جوار منزلها، وفي ممر ضيق محيط بالمنزل داست على لغم أرضي انفجر بها وبتر قدميها في الحال، هرع من في الداخل إلى مصدر الانفجار والصراخ، وكان أول الواصلين لإنقاذ دليلة ابنتي عمها التين انفجر بهما لغم آخر على بعد أمتار قليلة قبل أن تصلان إلى دليلة لتفقدا قدميهما كذلك وتصابان بجروح أخرى.

وأثناء وجود دليلة في المستشفى، كانت أسرتها تستقبل استدعاء من المحكمة من طرف زوجها طالباً انهاء الزواج واستكمال إجراءات الطلاق ومطالباً بلا خجل باسترجاع المهر، وهو ما تم بالفعل.

ولأن المصائب لا تأتي فُرادى فقد تم تفجير منزل أسرة دليلة ومنازل مواطنين آخرين مدنيين لا علاقة لهم بالحرب من قريب أو من بعيد، وتم تهجيرهم من قريتهم ومن بين مزارعهم إلى مخيمات النزوح والتشرد.

رسائل دليلة وأحلامها تلخص المأساة.

بألم توجه دليلة رسالتها لمختلف الأطراف وتقول: “لقد دفعنا ثمنا غالياً لهذه الحرب فأوقفوها حتى لا يدفع آخرون ما دفعناه من أرواحنا وصحتنا واستقرارنا ومستقبلنا، أوقفوها فأنتم لا تعرفون ما تسبب من ضياع للحاضر ودمار للمستقبل”

وحينما سألنا في المركز الإعلامي لذوي الإعاقة دليلة عن أحلامها؟، أجابتنا والعبرة تكاد تخنقها:

“أتمنى إلى أُصاب بأمراض أخرى حتى أتمكن من كسب لقمة عيشي ومساندة عائلتي التي فقدت كل شيء، كما أتمنى الحصول على سيارة للتنقل بها والتخلص من عناء المواصلات وما أواجه من رفض وتجاهل بعض السائقين لركوبي معهم بسبب إعاقتي، كما أتمنى أن أتمكن من توسيع مشروعي وأن أنتقل إلى محل فقد أُنهِكتُ في الشارع بين الشمس والريح”

وختاماً فقد سألنا دليلة –إذا ما كانت قد تلقت مساعدة لتطوير مشروعها من قبل صندوق رعاية المعاقين أو المنظمات الإنسانية العاملة في المحافظة فأكدت أنها لم تتلقَ أي مساعدة حتى الآن وأعربت عن شكواها من تجاهل المنظمات لذوي الإعاقة وخصوصاً المدنيين.

ولذلك نضع صندوق رعاية المعاقين والمنظمات الإنسانية أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والمهنية تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة عموماً والمدنيين منهم على وجه الخصوص كونهم خارج الحسابات بشكل كبير.

ملاحظة : للاقتراب أكثر يمكنكم سماع القصة بصوت الضحية نفسة في بودكاست “ما وراء الحرب” انتظرونا قريباً.

قراءة حقوقية لأوضاع ذوي الإعاقة في اليمن.. 2022 النشاط الحقوقي والرهان الرابح.

خاص /

بالتزامن مع إحياء الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ومؤسسات ذوي الإعاقة للعديد من المناسبات ذات الصلة بذوي الإعاقة في شهر ديسمبر كانون الأول فقد عمت الاحتفالات الكثير من مؤسسات ذوي الإعاقة في اليمن، ففي الثالث من ديسمبر احتفل ذوو الإعاقة بيومهم العالمي الذي أعلنته الأمم المتحدة عام 1992، كما أن اليوم العربي لذوي الإعاقة يوافق 13 ديسمبر، وتستمر احتفالات مؤسسات ذوي الإعاقة على مدار الشهر إذ أصبح متعارفاً عليه بأن ديسمبر هو شهر ذوي الإعاقة كما يقول المعاقون أنفسهم.

وعلى الرغم من أهمية أحياء تلك المناسبات في نشر وإذكاء الوعي بين أفراد المجتمع بقضايا وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن من المهم جداً إعادة التذكير بالالتزام الأممي تجاه ذوي الإعاقة واعتبارها قضية ذات أولوية  وشرطاً أساسياً لدعم حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، والسلام والأمن لأن الأمم المتحدة والأطراف المحلية أثبتت على أرض الواقع أن ذوي الإعاقة لا يمثلون لها أي أولوية، ومن خلال الرصد للجهود الإنسانية والإغاثية وجهود إحلال السلام في اليمن يتضح جلياً أن ذوي الإعاقة خارج كل الحسابات ولا يتم إشراكهم في محادثات السلام أو حتى التخطيط لعمليات الاستجابة والحماية الإنسانية رغم أنهم أكثر فئة دفعت ولا تزال ثمن الحرب الباهظة.

وتأسيساً على اعتراف الأمم المتحدة والدول الأطراف في الاتفاقية الدولية لتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة واليمن واحدة منها بأن ذوي الإعاقة من أشد الفئات تعرضاً للتهميش والإقصاء في المجتمع، فإنه يتوجب على مؤسسات ذوي الإعاقة وهي تحشد عشرات الملايين من الريالات أن تجيب ذوي الإعاقة عما سيتحقق لهم فعلياً على أرض الواقع من منجزات غير الاحتفالات المعتادة؟، وعلى مؤسسات ذوي الإعاقة أن ترفع الصوت عالياً لتوجد لها مكان ودور فاعل على غرار النساء وغيرهن من الفئات التي أصبحت رقماً هاماً لا يستطيع أحد استثنائه في كل المنظمات العاملة في اليمن وفي محادثات السلام وضمن مكونات جميع الأطراف المتنازعة.

كما أنه ينبغي على ذوي الإعاقة أفراداً ومؤسسات أن يوجهوا الجهود الإعلامية والحقوقية والميدانية الضاغطة نحو تثبيت حقوقهم في المؤسسات الحكومية والخاصة ذات النفع العام التي كفلتها لهم القوانين المحلية والتشريعات الدولية والحيلولة دون تهرب أي جهة من مسؤولياتها وإلقاء العبء على صندوق رعاية وتأهيل المعاقين أو مؤسساتهم المختلفة.

لقد عانى ذوو الإعاقة من الظلم والتعسف والحرمان حتى من قبل اندلاع الحرب في اليمن، وتخلت عنهم معظم الجهات الحكومية ملقيةً بكل المسؤولية على صندوق  المعاقين الذي أُنشئ في عام 2002 ولم تُخصص له الموارد الكافية، ولم يتم تحديد أهداف تنموية لتحقيقها بقدر ما انشغل الصندوق بتغطية نفقات المراكز والجمعيات والجوانب الصحية، فضلاً عن الاختلالات المالية والإدارية التي طالما اشتكى منها ذوو الإعاقة على مدار سنوات تأسيس الصندوق، وقد حان الوقت لمساندة التوجهات الجادة التي تبذل حالياً لإصلاح صندوق رعاية وتأهيل المعاقين.

لقد دفع ذوو الإعاقة خلال سنوات الحرب ثمناً باهضاً أكثر من غيرهم حيث تعرضت مراكزهم ومؤسساتهم للحرق والنهب والسطو المسلح وحتى القصف المدفعي والقصف بالطيران كما وثق ذلك المركز الإعلامي لذوي الإعاقة في عدة تقارير سابقة، كما تزايدت حالات الإعاقة بشكل كبير في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وشحة الموارد المخصصة لمؤسساتهم، واستمر توقف الضمان الاجتماعي للعام الثامن على التوالي فيما ألغت منظمة اليونيسيف الزيادة التي كانت قد أقرتها على المساعدات النقدية الطارئة أثناء جائحة كوفيد 19، وعلاوة على ذلك فقد الكثير من ذوي الإعاقة وظائفهم ومنازلهم بسبب استمرار النزوح، وتقول منظمات محلية ودولية أن نسبة الفقر بين ذوي الإعاقة في اليمن تتجاوز 90%، كما أن ذوي الإعاقة في الأرياف ما يزالون محرومون من أبسط الخدمات الأساسية.

استمرار أنين معاقين الحرب رغم الهدنة

وفي حين شهد العام 2022 استقراراً أمنياً بفعل الهدنة الأممية التي بدأت إبريل نيسان الماضي وتنفس اليمنيون الصعداء إلا أن معاقي الحرب استمروا بالأنين لينضموا إلى ملايين المعاقين التي تتجاهلهم جميع الأطراف، وعلى الرغم من استمرار الهدنة كان من المفترض أن توجه الكثير من المساعدات نحو التأهيل والتدريب ودعم المشاريع الصغيرة والمنتجة لأرباب الأسر من ذوي الإعاقة إلا أنه لم يحدث شيء من ذلك باستثناء مشروع التمكين الاقتصادي لصندوق المعاقين في صنعاء الذي استهدف حوالي 1400 أسرة.

النشطاء في مواجهة الانتهاكات

في مطلع إبريل نيسان أثناء حفل نظمته الجمعية اليمنية للناجين من الألغام تساءلت لبيبة عبده سيف، رئيس الجمعية: “من منح المجرمين الضوء الأخضر لقتلنا واغتيال مستقبلنا؟، من سيعوض الضحايا في ظل تفاقم المشكلة أكثر وأكثر؟”، وقبلها صنف البرنامج الدولي أكلد   Ecled  اليمن أكبر دولة ملغومة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وتتحدث الجهات المختصة عن مئات الآلاف من الألغام وعشرات الآلاف من الضحايا وهذه الأرقام تشكل تحدياً كبيراً ومشاكل ستستمر إلى ما بعد توقف سنوات الحرب بكثير.

وفي العام 2022 لم تشهد الحالة الحقوقية لذوي الإعاقة هدنة ولم تتوقف الانتهاكات بحقهم، فقد تعرض طفل من ذوي الإعاقة الذهنية في عدن مطلع يونيو حزيران للاغتصاب الوحشي من قبل أخواله الثلاثة حتى فقد القدرة على المشي والتوازن، ورغم التشهير بالطفل ونشر صوره على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل بعض أفراد محسوبين على السلطة الأمنية لم يتم توفير أي نوع من الرعاية للطفل وحمايته وتم الإفراج عن الجناة وإعادة الضحية إليهم مرة أخرى وما يزال بحوزتهم حتى اللحظة.

وقد رصد المركز الإعلامي لذوي الإعاقة العديد من الانتهاكات التي يتعرض لها ذوو الإعاقات العقلية والذهنية في تقرير نشره في الثاني من أغسطس آب بعنوان: “المعاقون عقلياً في اليمن.. انتهاكات بالجملة ووجع خلف الجدران“، ومنها الطفل ذوي الإعاقة المزدوجة العقلية والحركية الذي تم رميه في مكب للقمامة وسط مدينة تعز وتكفلت به إحدى الأسر فيما لم تُعرف أسرته حتى الآن.

صورة للطفل
صورة لطفل الذي تم رميه في مكب للقمامة

اللافت في هذا العام تصاعد العنف الأسري تجاه ذوي الإعاقة كما في الحالتين السابقتين بالإضافة لحالة الشاب يوسف النعامي، من ذوي الإعاقة البصرية، حيث أقدم والده على ضربه بالعطيف (الفأس) على رأسه أصبح على إثرها مشلولاً، ولاقت الحادثة استياءً كبيراً بين المكفوفين وعدد من المتضامنين الذين أصدروا في 17 ديسمبر كانون الأول عريضة تضامن تصدرها أكثر من 50 من الإعلاميين والمحامين والقضاة والأكاديميين والنشطاء ودعوا إلى نشرها وتداولها في وسائل التواصل الاجتماعي.

صورة يوسف النعامي

بل أن الاعتداء على ذوي الإعاقة والاستهتار بحياتهم قد وصل إلى تركهم على الطرقات كما حدث مع فؤاد عبده صالح، من ذوي الإعاقة العقلية، الذي دهسه سائق قاطرة في 21 ديسمبر كانون الأول في مديرية المخادر بمحافظة إب وسط اليمن بينما كان يرقد تحت شوال (كيس بلاستيكي) رغم اشتداد موجة البرد، وبحسب الأجهزة الأمنية فإن السائق قد سلم نفسه بعد معرفته بالحادث ووفاة فؤاد على الفور.

وفي نفس المديرية اقتحم مسلحون نهاية أبريل نيسان منزل نعمان عبد الله معوضة، من ذوي الإعاقة الحركية، وقاموا بتصفيته ثم لاذوا بالفرار، إلا أن الملازم أحمد الصلاحي، من شرطة المحافظة قد أكد للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة أن الأجهزة الأمنية قد ألقت القبض على أحد الجناة وأحالته إلى النيابة.

وفي حين يعتبر العام 2022 أقل تسجيلاً للانتهاكات بحق ذوي الإعاقة مقارنة بالعام الذي سبقه إلا أننا رصدنا كثافة في الانتهاكات الإعلامية والقوالب النمطية والمتحيزة بشكل كبير ولعل آخرها الاعتداء على الطفلة نبيلة، معاقة عقلياً ومن فئة المهمشين، وتعذيبها بقصد تصويرها والتشهير بها على أنها مصاصة دماء.

وفي مقابل تصاعد الخطاب الإعلامي غير المسؤول تجاه ذوي الإعاقة وخصوصاً من قبل صناع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي فقد قاد الأشخاص ذوو الإعاقة ومناصروهم حملات ضاغطة رفضاً لذلك الخطاب، حيث أطلق المركز بيان إدانة لمسلسل “عيال المرحوم” الذي أساء إلى الصم  تلته حملة على وسائل التواصل الاجتماعي انتهت باعتذار الشركة المنتجة،

صورة لبيان إعتذار شركة النبيل المنتجة لمسلسل عيال المرحوم

وفي ذات السياق أطلق المركز حملة حقوقية حول التناول الرعائي والقاصر لذوي الإعاقة في كتاب الوطنية لصف السابع أساسي وقام بإجراء دراسة متكاملة للوحدة الرابعة في نفس الكتاب ورفعها إلى الوزارة وعلى إثرها تم إيقاف طبعة 2022 واستيعاب الكثير من التعديلات التي أقترحها المركز في طبعة 2023.

صورة للمنهج قبل وبعد التعديل
صورة للمنهج قبل وبعد التعديل

كما مثل ذوو الإعاقة صوتاً ضاغطاً من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في عدة قضايا انتهت لصالحهم، وهذا يدل على أهمية تعزيز الوعي الحقوقي في أوساط الشباب والناشطين ذوي الإعاقة وتزويدهم بأدوات العمل الحقوقي وتدريبهم عليها لتمكينهم من الدفاع عن حقوقهم بأنفسهم.

“بك أُبصر” مبادرة يبصر المكفوفون بها مناهجهم في الجامعات.

“بك أُبصر” مبادرة يبصر المكفوفون بها مناهجهم في الجامعات.

خاص : إبراهيم محمد المنيفي /

هناك عيونٌ رأى بها أصحابها الحياة واستمتعوا بتفاصيل يومية كثيرة عن طريقها، لكن كثيرون لم يجربوا أن يمنحوا أعينهم بضع دقائق لمن لا يبصرون، كثيرون ضنوا أنهم يستمتعون بأبصارهم لكنهم لم يجربوا متعة من نوع آخر ومختلف إنها متعة أن تكون عينك هي عين إنسان آخر يشاركك الإنسانية، كما أنه مثلك يدرس ويتعلم ويحلم أن يكون شيئا في المستقبل، إنها مُتعة العطاء تشبث بها من جربوها وسطروا قصص لا ينساها لهم المكفوفون مادامت بهم الحياة.

تبدأ القصة الجديدة القديمة في جامعاتنا التي تأبى أن تتحمل مسؤولياتها عن جميع طلابها على السواء فتترك بعضهم ليتدبرو  شؤون أنفسهم بأنفسهم، تترك الجامعات اليمنية المكفوفين دون مناهج أو كتب ومراجع بطريقة برايل أو حتى مسجلة، ولأن المقررات الجامعية غير ثابتة وعملية اختيار المراجع والإحالات الأكاديمية تختلف من دكتور إلى آخر فإن الطلاب المكفوفين يلجؤون إلى زملائهم أو مراكزهم في الجامعة لتسجيل تلك الكتب والمقررات صوتياً.

ومع الدور المهم الذي تقوم به مراكز المكفوفين التي أنشأتها جمعياتهم في بعض الجامعات إلا أن تسجيل المقررات لا يزال مشكلة حيث أن المراكز تعتمد على المتطوعين من الطلاب والطالبات، ولأسباب كثيرة عانى ولا يزال المكفوفون من تأخر التسجيلات أو عدم الالتزام بالمواعيد فضلاً عن ضياعها وعدم الاهتمام بجودة التسجيل ودقة اللغة وغيرها من المشاكل كما يقول أمين حترش، بطل قصتنا – وأمين علي محمد حترش، هو من ذوي الإعاقة البصرية تخصص شريعة وقانون مستوى رابع بإحدى الجامعات الخاصة–، يضيف أمين للمركز الإعلامي لذوي الإعاقة: “اعتاد معظم الدكاترة تحديد المقررات الذي تدخل منها الامتحانات نهاية الفصول الدراسية، وهذا ما يضع الطالب الكفيف في سباق مع الزمن ليتمكن من الحصول على المقرر مسجل صوتياً فكيف إذا واجه بعد ذلك عدم الالتزام بمواعيد التسجيل وضياع المادة؟!” ويحاول أمين أن يضع المعنيين أمام مسؤولياتهم ويتساءل باستهجان: “هل يعلم المعنيون أن بعض الطلاب لا تصله التسجيلات إلا قبل الامتحان بيوم أو ليلة الامتحان نفسها وبعض الحالات امتحن الطلاب المكفوفون دون مقررات يرجعون إليها؟ هل يدركون حجم الضغط النفسي الذي يقع فيه الطلاب جراء هذا التأخير؟ هل يستشعرون مسؤولية أن هناك طلاب مكفوفين قادمين من محافظات بعيدة والبعض صرفت عليه أسرته دم قلبها ليتعلم ومع ذلك يواجه كل هذا الخذلان؟!”

أمين يهندس الحل بعيون مخلصة

لم يتوقف أمين عند المشكلة ليشبعها تنظيراً ويبحث على من يلقي اللوم، مباشرةً قرر أن يشعل الشمعة بنفسه ويتحمل المسؤولية، فقام بطرح المشكلة على أحد الزملاء الذي بدوره استدعى زميلة أخرى ليجتمع ثلاثتهم ويقرروا أن يطلقوا مبادرة أسموها “بك أُبصر” مهمتها جمع الراغبين من الطلاب والطالبات بالتطوع ليمنحوا المكفوفين جزء من أوقاتهم لتسجيل المقررات صوتياً، وشيء فشيء انتشرت الفكرة بين الطالبات بنفس الجامعة التي يدرس فيها أمين حتى توسع الفريق بشكل لافت.

استثمار الضوء وتوظيف الجهود بشكل مناسب

التقط أمين زمام المبادرة وقرر مع فريقه توظيف الجهود بشكل رائع يضمن استمرارها وإيصال التسجيلات للطلاب المكفوفين وفق المدة الزمنية المعقولة التي تضع في أول اعتباراتها احتياج الطالب والوقت المُتاح.

وضعت المبادرة آلية تراعي سهولة الاستفادة منها واستغلال التكنولوجيا يشرحها أمين بالتفصيل إذ يقول: “قمنا بإنشاء مجموعتين: مجموعة للمتطوعين وأخرى للمتطوعات حرصاً على خصوصية الفتيات، ومجموعة ثالثة للطلاب المكفوفين من مختلف الجامعات، يقوم الطالب الكفيف بإرسال الكتاب أو المرجع على شكل مستند إلكتروني عبر الواتساب أو التلجرام ويحدد الفترة التي يريد خلالها التسجيل، بعد ذلك نقوم بعمل منشور على مجموعات المتطوعين باسم المادة لدينا والمدة التي نريد خلالها أن يكون التسجيل جاهزاً ، ثم نستقبل طلبات التسجيل ونقوم بتوزيع المستندات الموجودة لدينا على المتطوعين والمتطوعات وبعد إرسالها لنا كملفات صوتية نقوم بتجميعها وترتيبها وإرسالها إلى الطالب، وفي حالة عدم وجود الكتاب بصيغة إلكترونية يضع الطالب الكتاب في أقرب محل عام معروف ونقوم بالإعلان عن الكتاب ومحل توفره ليقوم المتطوع الأقرب بأخذه وتسجيله”

حينما يكون المتطوعون نبلاء.. مواقف لا تُنسى.

بصوت يملأه الفخر والتأثر يعبر أمين عن سعادته بأن مبادرته أصبحت ملجأ للكثير من الطلاب، ويقول أن المبادرة تمكنت من تسجيل مئات المقاطع الصوتية لعشرات المقررات والأهم أنها أوصلتها للطلاب في الوقت المناسب.

وبتقدير كبير واحترام جم يتحدث أمين عن حماس وإخلاص المتطوعين وخصوصاً الفتيات وتفانيهن لتسجيل المقررات، وحين سألناه عن أكثر موقف تأثر به في عمله مع المبادرة قال أمين: “كل جهد تطوعي هو مؤثر ومحل تقدير واحترام، لكن أكثر موقف تأثرت به عندما أرسلت إلى مجموعات المتطوعين مستند مقترح لائحة تصنيف الإعاقة الذي أثار جدل كبير وكان المكفوفون يرغبون بقراءته لكنهم لم يتمكنوا بسبب عدم قدرة البرامج الناطقة على قراءة مستندات PDF، وبعد تسجيل اللائحة صوتياً تداولها المكفوفون بينهم بشكل واسع، وحينها طلب رئيس الاتحاد الوطني للمعاقين اسم من قامت بتسجيل اللائحة لتكريمها، لكنها شكرته على اللفتة وفضلت عدم التكريم وقالت: أنا لا أرغب بأي مكسب مادي من تطوعي في هذا العمل خصوصاً، كما أنني أقوم بالتسجيل ولا أعرف لمن التسجيل وكيف سيستفيد منه لكنني أثق بأنني أسجل لأشخاص مستحقون وسيستفيدون منه بطريقتهم”

يتحدث أمين عن متطوعة أيضاً تعيش في محافظة أخرى لكنها ترسل أحد أقاربها القادمين إلى صنعاء لأخذ الكتب الورقية وتقوم بتسجيلها، ويلفت أمين إلى ثقافة بعض الأسر وثقتها التي تمنحها لبناتها ويقول: “لك أن تتخيل أخت تطلب من أخيها أن يذهب إلى شخص لا يعرفه ولا تعرفه ليأخذ منه كتاب ثم يجلبه لها لتقوم بتسجيله، هل يمكن أن تقوم بهذا لولم تكن هذه الأسرة كريمة ونبيلة وتربي أبنائها على قيمة العطاء وخدمة المجتمع؟”

وعلى الرغم من أن هدف المبادرة هي تعميم النور ونشر الضوء للمكفوفين إلا أن أمين يشكو من عدم تفاعل مؤسسات المكفوفين مع المبادرة ويُطالب بتشجيع مثل هكذا مبادرات ويؤكد: “ليس من الضروري أن تستحوذ على مبادرتي لتدعمني في الوقت الذي تعطلت الكثير من المبادرات لديك وعلى مدار عدة سنوات لا يزال الطلاب يعانون من مشكلة تسجيل المناهج، نحن نعرض أحياناً لبعض المراكز تفرغ بعض المتطوعين لدينا لكنهم يرفضون أن نسجل لهم الكتب المتراكمة لديهم إلا إذا ربطناهم مباشرة بمتطوعي المبادرة”

وهكذا فإن مبادرة “بك أُبصر” بأعضائها الذين يناهزون المائة متطوع ومتطوعة قد استطاعوا أن يحققوا تقدماً كبيراً في هذا الملف وبشهادات الطلاب أنفسهم، أما عن حماس المتطوعين والمتطوعات فلا يقل عن البدايات ما يبشر بأن تلك المبادرة وجدت لتستمر وبها ليبصر المكفوفون مناهجهم دون عناء.